كائنات حية في البقعة الأشد حرارة على وجه الأرض

  • جاسمين فوكس-سكيلي
  • صحفية علمية
منخفض داناكيل في إثيوبيا

صدر الصورة، Alamy

في مشهد من عالم آخر، وفي برك تشع باللونين الأصفر والأخضر، تغلي المياه الساخنة في الينابيع كما تغلي المياه في المراجل، وينتشر في الجو غازا الكلور السام والكبريت إلى درجة تسبب الاختناق.

وهذه البقعة هي منخفض داناكيل في إثيوبيا، وهي بقعة ذات حرارة حارقة، وتمثل أحد الأماكن الأكثر غرابة في العالم، حتى إنها اشتهرت باسم "بوابة جهنم". لكن فريقا بحثيا اكتشف مؤخرا أن هذه البقعة تعج أيضا بكائنات حية.

في قلب القرن الأفريقي، يقع منخفض داناكيل، الذي يعد واحدا من أكثر المناطق قساوة وصعوبة للعيش في العالم. لكن هذه المنطقة لم تنل إلا قدرا قليلا من الدراسة.

وتنخفض هذه البقعة عن مستوى سطح البحر بما يزيد على 330 قدما، وتقع في منطقة بركانية شمال غربي إثيوبيا، بالقرب من الحدود مع إيريتريا، وسميت باسم "عفار".

وتشكل منطقة عفار جزءا من نظام الوادي المتصدع الكبير شرقي أفريقيا، حيث تتفاعل القوى الباطنية للأرض حاليا لتفكيك ثلاث صفائح تكتونية وإبعادها عن بعضها لتكوين أرض جديدة.

ويقال إن هذا المشهد المخيف يقع في أكثر المناطق سخونة على وجه الأرض، وأكثرها جفافا. إذ تصل درجة الحرارة المعتادة إلى 45 درجة مئوية، ويندر فيها سقوط الأمطار، وتوجد أسفل القشرة الأرضية مباشرة بحار من الصهارة البركانية المتوهجة.

ويوجد في منطقة عفار بركانان نشطان، أحدهما إيرتا أيل، الذي يعد واحدا من البراكين القليلة حول العالم التي تعلوها بحيرة نشطة من الحمم البركانية. وتنتشر في المنطقة أيضا البِرك الحمضية وينابيع المياة الساخنة، والتي تضم فوهة بركانية عميقة تسمى "دالول".

ونتجت هذه الألوان الساطعة عن الأمطار ومياه البحر القادمة من الساحل المجاور، التي تسخنها الصهارة وتصعد بها إلى أعلى. ويتفاعل الملح من مياه البحر مع المعادن البركانية في الصهارة، ليثري المشهد بطيف من الألوان الجذابة.

منخفض دانكيل

صدر الصورة، Alamy

التعليق على الصورة، منخفض دانكيل من أكثر الأماكن قسوة وجفافا على وجه الأرض

وعندما يتفاعل الكبريت مع الملح في البرك الأكثر سخونة، والتي تحتوى على أعلى نسبة حموضة، تنتج شقوق في الأرض من اللون الأصفر الزاهي. وفي البرك الأقل حرارة، تنتج أملاح النحاس لونا فيروزيا زاهيا.

ولأن الطقس حار وجاف، لا يعيش هناك إلا القليل من الحيوانات أو النباتات. وتعد فوهة بركان دالول نفسها مكانا مقفرا، لكن قبائل الرحل التي تعيش في منطقة عفار قد استقرت في قرية مجاورة تسمى حاماديلا، بشكل شبه دائم.

وإيجازا، يبدو منخفض داناكيل كما لو كان من كوكب آخر، ولا يوجد له مثيل على وجه الأرض. ربما يشبه إلى حد ما المناطق ذات الأنظمة المائية الحرارية، مثل متنزة يلوستون في الولايات المتحدة، لكنه أشد حرارة، ونسبة الحموضة في المياه على سطحه أعلى بكثير.

وفي الواقع، يبلغ متوسط الرقم الهيدروجيني للمياه في منخفض داناكيل 0.2، ما يدل على درجة عالية من الحموضة لا تكاد تجدها في أي بيئة طبيعية أخرى.

كما أن المعلومات التي نعرفها عن منخفض داناكيل أقل بكثير من تلك التي نعرفها عن البركان الخامل أسفل متنزه يلوستون. وهذا ما يحاول العلماء تغييره.

ومنذ عام 2013، انطلق فريق من العلماء لسبر أغوار المنطقة، وهم من الاتحاد الأوروبي لعلوم الكواكب "يوروبلانيت"، وهو ائتلاف من المعاهد والشركات البحثية يجري أبحاثا على مناطق من الأرض قد تضاهي كوكب المريخ.

كما أن العمل في هذه المنطقة محفوف بالمخاطر. ويرى الباحثون المبتدئون أن هذه المنطقة موحشة إلى أقصى حد، ويتعذر الوصول إليها. والأصعب من ذلك، أن الصراعات السياسية على الحدود بين إثيوبيا وإريتريا قد تندلع في أي لحظة.

وفي عام 2012، اختُطف زوار أوروبيون إلى المنطقة، وقُتلوا فيها. ولهذا، في كل مرة يأتي الباحثون إلى داناكيل، يرافقهم عناصر من الجيش لحمايتهم.

منخفض داناكيل

صدر الصورة، Alamy

التعليق على الصورة، يعمل الباحثون في الموقع تحت درجات حرارة قد تصل إلى 55 درجة مئوية
تخطى يستحق الانتباه وواصل القراءة
يستحق الانتباه

شرح معمق لقصة بارزة من أخباراليوم، لمساعدتك على فهم أهم الأحداث حولك وأثرها على حياتك

الحلقات

يستحق الانتباه نهاية

وتشارك باربرا كافالازي، من جامعة بولونيا في إيطاليا، في هذا الفريق، وتجري أبحاثا في منخفض داناكيل منذ عام 2013. وتقول كافالازي: "هذه البيئة شديدة القسوة، إذ يصل متوسط درجة الحرارة في وقت الظهيرة فيها إلى 48 درجة مئوية، وفي إحدى المرات، بلغت درجة الحرارة 55 درجة مئوية".

وفي فوهة بركان دالول، يعمل النشاط الحراري في جوف الأرض على زيادة درجات الحرارة، إذ تصل درجة حرارة الماء المالح الذي يبلغ السطح إلى نحو مئة درجة مئوية. وإلى جانب الحر الحارق، يحاول العلماء التعامل مع غاز كبريتيد الهيدروجين السام، ناهيك عن بخار الكلورين الذي يكوي الممرات الهوائية، ويسبب الاختناق.

ولهذا يتيعين عليهم ارتداء أقنعة الغاز وهم يعملون في المنطقة لأي فترة من الوقت.

وتقول كافالازي: "عليك أن تتوخى الحذر عندما تسير في المنطقة ذات الطاقة الحرارية الجوفية، لأن القشرة المكونة من الأملاح رقيقة وهشة للغاية، لهذا فلتحرص ألا تطأها بقدمك".

وتضيف: "فإذا سقطت في مياه تصل درجة حرارتها إلى مئة درجة مئوية، وتصل درجة الحموضة فيها لمستويات قياسية، ستكون في مأزق كبير، إذ توجد أقرب مستشفي في هذا المكان في مدينة ميكيل، التي تبعد عدة ساعات عن فوهة بركان دالول".

وتضيف: "عندما أذهب إلى المنطقة أكون دوما برفقة مرشد من عفار، لأن القبائل التي تعيش في هذه المنطقة تعرف أين تتوجه وأين تضع أقدامها."

وركزت الرحلات البحثية القليلة الأولى في عام 2013 على وضع الخطوط العريضة لكيفية العمل في داناكيل. وتقول كافالازي: "لا يمكنك أن تصطحب معك ثلاجة أو مواد كيماوية إلى المنطقة لتختزن العينات فيها، ولهذا لابد أن تجتهد في التفكير والتخطيط لإيجاد طرق بديلة".

وفي ربيع 2016، نجح الباحثون في جمع عينات من الينابيع والبرك الساخنة، على أمل أن يجدوا فيها شكلا من أشكال الحياة. كما استطاعوا أن يقيسوا درجات حرارة المياه في البرك، ودرجة حموضتها. وعادوا إلى المنطقة مرة أخرى في يناير/كانون الثاني 2017 لجمع المزيد من العينات.

رواسب الملح في منخفض داناكيل

صدر الصورة، Alamy

التعليق على الصورة، منخفض داناكيل مليء برواسب الأملاح المعدنية التي دُفعت إلى السطح

وفي مارس/آذار عام 2017، عثر العلماء من معمل كافالازي وزملاؤهم على مظاهر للحياة في داناكيل، بعد أن نجحوا في عزل حامض نووي من أحد أنواع البكتيريا، واستخراجه، وتحليله.

وكشف الفريق عن أن هذه البكتيريا قادرة على تحمل عدة عوامل بيئية قاسية، وهذا يعني أنها قادرة على التكيف مع درجة الحموضة الاستثنائية، ودرجات الحرارة المرتفعة، ودرجة الملوحة العالية في آن واحد. ويعد هذا أول دليل قاطع على وجود حياة ميكروبية في برك داناكيل الحمضية.

وفي بحث لم ينشر بعد، ذكر الفريق أنه اكتشف شكلين مختلفين من أشكال الحياة البكتيرية في منطقتين منفصلتين في ذلك الموقع، إحداهما ينابيع وأحواض الملح داخل فوهة بركان دالول، والتي تتميز بألوانها الزاهية، وحموضتها وسخونتها التي تصل إلى درجة الغليان، والأخرى هي بحيرة صغيرة خارج فوهة بركان دالول.

وتختلف هذه البحيرة عن الينابيع المالحة بأنها أقل سخونة، إذ تتراوح درجة حرارتها بين 50 و55 درجة مئوية. كما أن مياه البحيرة تختلف عن مياه الينابيع المالحة، فرغم أن نسبة الملوحة فيها مرتفعة، إلا أنها أقل منها حموضة، إذ تبلغ قيمة الرقم الهيدروجيني للمياه في البحيرة اثنين تقريبا. إلا أن المياه غنية بثاني أكسيد الكربون المنبعث من الأنشطة البركانية أسفل البحيرة.

وتقول كالازي: "تعرف البحيرة بعدة أسماء، إذ يطلق عليها السكان المحليون 'غيت ألي' أو 'أراث'، بينما يسميها البعض 'البحيرة الدهنية' أو 'البحيرة الصفراء'. وأطلق عليها بعض الناس اسم 'البحيرة الفتاكة'، بسبب الحشرات والطيور الصغيرة الكثيرة النافقة الملقاة بالقرب منها، والتي يمكنك أن تراها إذا كنت تعمل بالقرب من البحيرة".

وتضيف: "ومن المرجح أن تكون هذه الطيور والحشرات جاءت إلى البحيرة وشربت بعض الماء. لكنها في الحقيقة نفقت بسبب الانبعاثات القوية لثاني أكسيد الكربون".

ولأن ثاني أكسيد الكربون أثقل من الهواء، فهو يهبط إلى أسفل. ولهذا، عندما تستنشق الكائنات الصغيرة، مثل الطيور، ذلك الهواء فوق البحيرة مباشرة، تصاب بالاختناق.

لكن البشر أقل عرضة لاستنشاق هذا الهواء المحمل بثاني أكسيد الكربون فوق البحيرة مباشرة، لأنهم أطول في الغالب من الطيور. فإن أي كائن حي يقترب على مسافة 12 بوصة من الماء سيجد أنه يستنشق الكثير من ثاني أكسيد الكربون ويموت.

صحراء داناكيل القاحلة

صدر الصورة، Alamy

التعليق على الصورة، تعد البرك في صحراء داناكيل من المناطق ذات أعلى نسبة حموضة في العالم تُكتشفت فيها كائنات حية

ومن المقرر أيضا أنه يعلن العلماء قريبا عن اكتشافات أخرى غير مسبوقة في هذه البقعة.

إذ عثر الفريق على كائنات حية في بركة بلغ فيها الرقم الهيدروجيني صفر، ما يدل على درجة حموضة عالية للغاية. وتعد هذه البركة البقعة ذات أعلى نسبة حموضة في العالم التي اكتشفت فيها كائنات حية. وقد سجلت أعلى درجة حموضة في العالم من قبل في نهر ريو تينتو في أسبانيا، إذ بلغ الرقم الهيدروجيني 2.

ويصير الماء حمضيا عندما يحتوي على نسبة عالية من ذرات الهيدروجين التي تحمل شحنات موجبة. ولا تستطيع أكثر الكائنات الحية تحمل هذه النسبة العالية للغاية من الحموضة، لأن ذرات الهيدروجين المشحونة تؤثر على تركيب بروتينات خاصة تسمى الإنزيمات، والتي تقوم بالتنسيق بين جميع التفاعلات الكيميائية الحيوية داخل الخلية.

وقد تضر درجة الحرارة المرتفعة أيضا تلك الإنزيمات، وتفكك الروابط الكيميائية التي تربط الأحماض النووية وأغشية الخلايا ببعضها. فضلا عن أن مستويات الملوحة العالية قد تفرغ الخلايا من المياه، ومن ثم تذبل تلك الخلايا وتصبح كالقشرة الفارغة الجافة.

وقد تكيفت الميكروبات التي اكتشفت في متنزة يلوستون الوطني بالولايات المتحدة، وغيرها من البيئات ذات الأنظمة المائية الحرارية، مع البيئات المحيطة حتى تتمكن من البقاء. إذ تطورت لديها على سبيل المثال بروتينات وإنزيمات أقل تأثرا بدرجات الحرارة المرتفعة، وربما تكون قد زادت لديها الروابط بين الأحماض الأمينية التي تمثل اللبنات الأساسية لبناء البروتينيات.

وقد تكون البكتيريا في الينابيع الساخنة في منخفض داناكيل أيضا قد اكتسبت صفات مشابهة للتكيف مع البيئة القاسية.

لكن مهما اختلفت الطريقة التي تكيفت بها، فإن اكتشافات العلماء ستعيننا على فهم كيفية نشأة مظاهر الحياة، إن وجدت، على كواكب وأقمار أخرى.

وتقول كافالازي: "في كوكب المريخ، توجد رواسب معدنية وكبريتية تشبه الرواسب التي رأيناها في منخفض داناكيل. كما يتدفق الماء المالح بين الحين والآخر على الكوكب".

ولهذا، فمن خلال دراسة البيئات القاسية على كوكب الأرض، التي قد تضم أشكالا للحياة، والتعرف على الطرق التي تتحمل بها الكائنات الحية هذه الظروف، سنحدد المناطق القابلة للعيش على بعض الكواكب، مثل كوكب المريخ.

وتعتقد كافالازي أن الكائنات الحية لم تستنفد الحيل التي تمكنها من تحمل الظروف القاسية، وتشير إلى "تنوع وتعدد الطرق التي تحصل من خلالها الميكروبات على الطاقة والمغذيات التي تحتاجها لتبقى على قيد الحياة، والقدرات الفسيولوجية الاستثنائية التي تتمتع بها الكثير من الكائنات الدقيقة لاستيطان أي بيئة".

وربما توجد أنظمة بيئية أكثر قسوة على كوكب الأرض لم نكتشفها بعد.

يمكنك قراءة الموضوع الأصلي على موقع BBC Future .