القرضاوي: من لا يعرف لماذا جاء وإلى أين سيذهب يعيش حياة في منتهى القسوة أشبه ما تكون بالسجن

القرضاوي: من لا يعرف لماذا جاء وإلى أين سيذهب يعيش حياة في منتهى القسوة أشبه ما تكون بالسجن
القرضاوي: من لا يعرف لماذا جاء وإلى أين سيذهب يعيش حياة في منتهى القسوة أشبه ما تكون بالسجن

 

عمان-الغد- من تجليته لمفهوم الوسطية في الإسلام وأبعادها الفقهية والحضارية والسياسية المختلفة، وتصحيح التصورات المتداولة الخاطئة عن المفهوم في الحلقة السابقة، ينتقل القرضاوي اليوم إلى مناقشة مفهوم العبادة في الإسلام، وتوضيح مضامينه ومفهومه الشامل الذي يتجاوز الشعائر التعبدية إلى مختلف مجالات الحياة وأعمال الإنسان.

اضافة اعلان

يأتي ذلك في الوجبة الرمضانية الفقهية اليومية من فقهيات القرضاوي، التي تقدّمها الغد إلى قرائها بالتزامن مع بثها على قناة أنا الفضائية (ويتولى تحريرها الزميل مصطفى عبد الجواد من القناة نفسها).

فقد شدد القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، على أن العبادة في الإسلام لا تقتصر فقط على الشعائر والأذكار، مؤكدًا أن الحياة كلها بالنسبة للمسلم مجال للعبادة، وأن الأرض محراب كبير، فالعمل المعيشي الذي يكسب به الإنسان قوت يومه، يعد عبادة إذا كان مشروعًا وخلصت فيه النية وتمت تأديته باتقان.

وأوضح أن الإسلام هو أفضل من أجاب عن الأسئلة الكبرى المتعلقة بخلق الإنسان، وهي: من أين جاء؟ ولماذا جاء؟ وإلى أين سيذهب؟ لافتًا إلى أن مقاصد الله من الخلق تتمثل في إقامة العبادة لله والقيام بخلافة الله في الأرض وإعمارها.

وأشار إلى أن من لا يعرف لماذا جاء وإلى أين سيذهب، يعيش حياة في منتهى القسوة، أشبه ما تكون بالسجن، لأنه لا يعرف لحياته أو موته معنى، خلاف الإنسان صاحب رسالة.

ولفت القرضاوي إلى أهمية أعمال القلوب الباطنة، موضحًا أن الكثيرين يغفلون عنها، مع أن العمل الظاهر لا يقبل إذا لم تصحبه نية قلبية خالصة.

* لفضيلتكم كتاب أسميتموه "العبادة في الإسلام"، وهو من أول ما كتبتم، وكتب الله عز وجل له قدرًا كبيرًا من القبول، فنود في البداية أن تحدثنا عن مهمة الإنسان في هذه الحياة؟

مهمة الإنسان، أو مقاصد الخالق من الناس، نستطيع أن نحددها في ثلاثة أشياء، ذكرها الإمام الراغب الأصفهاني في كتابه القيم "الذريعة إلى مكارم الشريعة" وهذا كتاب قدر لي أن اقرأه وأنا طالب في المرحلة الثانوية، وعلق بي من قراءته أشياء مهمة من ضمنها مقاصد الخالق من الناس ومن المكلفين، فحددها في ثلاثة أشياء: المقصد الأول: العبادة وفيها الآية التي ذكرت في سورة الذاريات (وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذو القُوَّةِ المَتِينُ) فهذه العبادة.

أما المقصد الثاني فهو الخلافة، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فحينما أراد الله أن يخلق آدم أشعر الملائكة أو كأنه يستشيرهم في شأن هذا المخلوق الجديد، وأنه يريد أن يكون خليفة الله في الأرض، ويحكمها بالحق والعدل.

* هل "خليفة" المقصود منها أنه يخلف الله في الأرض، أم أنه يخلف بعض المخلوقات الأخرى؟

هذا فيه كلام كثير ذكره الإمام ابن القيم، حيث قال إن الله هو خليفة الإنسان، وفي الدعاء: اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، ولذلك أنا لم أقل إنه يخلف الله، بل قلت:  خليفة الله، بمعنى أنه يقوم بحق هذه الخلافة التي معناها إقامة الحق والعدل في الأرض.

والمقصد الثالث هو عمارة الأرض، فالله أراد من الإنسان أن يعمر هذه الأرض، وأن يحييها ويجملها ويزرعها، وأن يقيم فيها المباني والصناعات، وهذا معنى قوله تعالى على لسان صالح عليه السلام حينما قال لقومه (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) و"السين" و"التاء" أصلها للطلب، بمعنى طلب منكم أن تعمروا الأرض، ولا تخربوها ولا تفسدوها، (ولاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، فالله هيأها صالحة لتعمر وتحيا وتنمو، فحافظوا على هذا وسيروا، وهذه هي المقاصد الأساسية التي يحب الله من الإنسان أن يقوم بها.

* هناك بعض الأسئلة التي أطلق عليها الفلاسفة اسم "الأسئلة المحيرة"، أو الأسئلة الخالدة، وهي: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟ فهل الإسلام أجاب بإقناع عن هذه الأسئلة؟

قطعًا هذه أسئلة حيرت الإنسان منذ بدأ يفكر، وحينما يفكر الإنسان لابد أن يفكر من أين جئت؟ ومن أين جاء هذا العالم من حولي؟ والسؤال الثاني بعد من أين هو إلى أين؟ وإذا أنا عرفت من أين جئت، فلابد أن أعرف إلى أين أنا ذاهب؟ أم أنني سوف أعيش سنين تقصر أو تطول، ثم يطويني التراب، بمعنى جئت من التراب وأمشي على التراب وآكل من التراب، وأنتهي إلى التراب، كما عبر بعضهم عن هذا، أو كما قال بعض الماديين: إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع، نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.

ثم هناك السؤال الثالث.. لماذا؟ لماذا جئت إلى هذه الدنيا؟ وهل لي مهمة ورسالة في هذه الحياة؟ أم أنا كأي كائن أو دودة خرجت من الأرض؟

أجوبة إسلامية

* بماذا أجاب الإسلام عن كل سؤال من هذه الأسئلة؟

أولاً هذه الأسئلة لا يجيب عنها إلا الدين، ولا تستطيع أي فلسفة وحدها أن تجيب العقل إجابة شافية، وتزيل عنه الحيرة، وتقر فيه السكينة، لأن الفلسفات اختلفت بعضها مع بعض، كما قال شيخنا الشيخ عبد الحليم محمود وهو كان أستاذا للفلسفة في كلية أصول الدين، حيث أوضح أن الفلسفة لا رأي لها، لماذا؟ لأنها تقول الشيء ونقيضه، فهناك فيلسوف يوجب وفيلسوف يسلب، وفيلسوف يثبت وآخر ينفي، فلا تستطيع أن تخرج من الفلسفة برأي، لكن الذي أجاب عن هذه الأسئلة الإجابة الشافية المزيلة للحيرة والتناقض في فكر الإنسان وسلوكه، هو الدين من حيث هو دين، خصوصًا دين الإسلام.

وقد أجاب عن السؤال الأول.. من أين؟ من الله عز وجل، والقرآن ناقش هذه القضية بجمل قصيرة جدًّا، ولكنها مقنعة جدًّا (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ) والذي يسأل من أين جئنا، ومن أين جاء هذا العالم؟ نقول: هل جئت من غير شيء؟ هذا غير ممكن فلا يوجد خلق من غير خالق، ولا توجد حركة من غير محرك، ولا أثر من غير مؤثر، لأن هذا ضد القانون الذي يسمونه قانون العلية أو السببية، حيث أن لكل معلول علة، ولكل مسبب سببًا، وهذا قانون عند الفلاسفة، عبّر عنه الأعرابي بلغته السهلة البليغة، لما سئل عن الله فقال: البعرة تدل على البعير، وخط السير يدل على المسير، فكيف بسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، أفلا يدل ذلك على العلي القدير، فكلمة (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) تؤكد أن كل شيء خلق لابد أن يكون له خالق.

إذن فمن الخالق؟ أهم الخالقون؟ هذا لا يمكن؛ لأن العدم لا يخلق الوجود، ولا يمكن أن يقول الإنسان أنا خلقت نفسي، لأنك لم تكن شيئًا مذكورًا ثم وجدت، فمن أوجدك؟ ومن خلق السموات والأرض؟ هم لم يدعوا هذا، ولو ادعوه لكذبهم الواقع، الذي يقول إن السموات والأرض موجودة قبل أن تخلقوا، إذن الله هو الخالق، فهذه هي إجابة السؤال الأول من أين؟

* وماذا عن السؤال الثاني.. إلى أين؟

هنا يقول الدين، ويقول الإسلام بالذات، إن الإنسان خلق للخلود، يعني ليست قصة أرحام تدفع وأرض تبلع وينتهي المطاف، فالموت قنطرة إلى حياة أخرى، وكما يقول عمر بن عبد العزيز: إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار، فالموت هو عملية نقل من الدار الفانية إلى الدار الباقية، فلا يظن الإنسان أن الموت عدم؛ لأنه لو كان عدمًا لما قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ وَالْحَيَاةَ)؛ لأن العدم لا يخلق، فالموت هو مرحلة من المراحل إلى الخلود، وهكذا فحياة الإنسان ممتدة، فهذا جواب عن السؤال الثاني.

أما عن السؤال الثالث.. وهو لماذا؟ فهذا الذي بيّن رسالة الإنسان، والتي عبرنا عنها في المقاصد الثلاثة التي نقلناها عن الراغب الأصفهاني، وهو أن الإنسان خلق ليعبد الله، وليعمر الأرض، وليقوم بحق الاستخلاف في هذه الدنيا.

* وما تعليق فضيلتكم على قول بعضهم "جايين الدنيا ما نعرف ليه"؟ هذا ما شاع عند البعض وتغني بها الشباب والكبار والصغار؟

هذا كلام المشككين، وهم لا يعرفون لماذا خلقوا، ولا يجيبون عن هذه الأسئلة، فهي أسئلة بلا جواب عندهم، فالملاحدة والمرتابون لا يجدون جوابًا لهذه الأسئلة؛ كما قال إيليا أبو ماضي:

جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت

ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت

كيف جئت وكيف أبصرت طريقي لست أدري

ولماذا لست أدري، لست أدري أيضًا.

وهذا النظر يجعل الإنسان يعيش حياة في منتهى القسوة؛ لأنه إذا كان لا يعرف لحياته معنى ولا لموته معنى، فمعناه أنه يعيش مكرهًا في هذه الحياة، ويقضيها كأنها سجن مفروض عليه، وهذا خلاف الإنسان الذي يعيش وهو صاحب رسالة، كما عبر عن ذلك إبراهيم بن آدهم، وهو كان أميرًا، لكنه ترك حياة الإمارة، وحياة الترف والغنى، وذهب إلى حياة الزهد، وعمل في الحقول يحصد القمح، ويعامله الناس كما يعامل العمال، ويأكل من كد يمينه، وعرق جبينه، ويقوم الليل ويقرأ القرآن، ثم قال لبعض أصحابه يومًا: أي سعادة نحن فيها، ولو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة وسكينة لجالدونا عليها بالسيوف.

ولكن، من  نعمة الله عليهم أن الملوك وأبناء الملوك لا يعرفون هذه القيمة، فتركوهم يتمتعون بها دون أن ينافسوهم في هذه الحياة، وهذا هو الفرق بين حياة المؤمن الذي يعرف لماذا يعيش؟ وحياة الذي يعيش ولا يدري لماذا يحيا ولماذا يموت؟.

فهم قاصر

* لكن هل الإنسان وحده هو المأمور بالعبادة، أم أن الكون كله من حوله شريك له في هذه العبادة لله سبحانه وتعالى؟

الكون كله يسبّح الله عز وجل (سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) و (يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) و(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ ولَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) و(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) و(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) فكل شيء يسجد لله ويسبح له، ولكن هناك مخلوقات مكلفة ومخلوقات غير مكلفة، والمكلف بعبادة الله، هو الإنس والجن، وما عدا ذلك فهم يسبحون الله بدون تكليف، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون، (لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ) لكنهم غير مكلفين، فهم يؤدون هذه الأشياء كما نتنفس نحن، أما المكلفون الذين يؤمرون وينهون ويحاسبون ويثابون ويعاقبون، وأمامهم جنة ونار، فهم هذان الصنفان: الجن والإنس.

* البعض أحيانًا عندما يأتي الحديث عن العبادة يتوهم أن العبادة مقصورة على الصلاة، والزكاة، والحج، والصيام، فهل فعلاً هذا هو مفهوم العبادة؟

لا، هذا فهم قاصر لمعنى وأفق العبادة في الإسلام، فهذه ما نسميها العبادات الشعائرية الكبرى، ولكن ليست العبادات الشعائرية وحدها هي المطلوبة من المسلم، فهناك نوافل بعد العبادات، فمثلاً بالنسبة للصلوات الخمس هناك الرواتب، السنن القبلية والسنن البعدية، وهناك صلاة الوتر، وقيام الليل، وصلاة الضحى، والصلوات التي تأتي في المناسبات مثل صلاة الكسوف، صلاة الخسوف، وصلاة الاستسقاء، وصلاة الحاجة، وهناك الأذكار، والأدعية، والتسبيحات، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) فالذكر مطلوب من المسلم، وربنا وصف المنافقين فقال (يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً)

وهناك أذكار للمسلم ألفت فيها كتبًا، مثل كتب "اليوم والليلة" و"عمل اليوم والليلة"، أي أنك تذكر الله في الصباح والمساء، وعندما تنام وتقوم من النوم، وعندما تخرج من البيت أو تدخل ، وعندما تلبس ثوبك أو تخلعه، وعندما تأكل، وعندما تشبع، وعندما تشرب، وعندما تفرغ من الشرب، وعندما تركب الدابة، ففي كل شيء ذكر لله، حتى عندما تدخل لقضاء الحاجة، وعندما تقضي الشهوة، فكل حياة الإنسان يملؤها الذكر ويحوط بها من كل جانب.

* ما تعليقكم على تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية للعبادة، عندما قال إن العبادة اسم جامع لما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة؟

أنا أتبني هذا التعريف للعبادة في الإسلام، وأنها لا تقتصر على الشعائر ولا على الأذكار، والأدعية، والاستغفار، فالعبادة في الإسلام مفهوم واسع جدًّا ويشمل الحياة كلها، وابن القيم فصل هذا التعريف في أكثر من كتاب له، خصوصًا في "مدارج السالكين" ، حيث ذكر خمسين مرتبة للعبودية، عبودية اللسان، وعبودية الجوارح، وعبودية القلب، إلى آخره، بذلك تصبح الحياة بالنسبة للمسلم كلها مجالاً للعبادة، والأرض محرابًا كبيرًا للإنسان المسلم، فهو يمكن أن يعبد الله سبحانه وتعالى بالسعي في مصالح الناس.

الأعمال الباطنة

* قبل أن ندخل إلى هذه النقطة، ماذا يقصد شيخ الإسلام بالأفعال الباطنة؟

من الأشياء التي يغفل عنها الكثيرون ما يسمى بالعبادات الباطنة، فهناك أعمال تتعلق بالجوارح، وأشياء تتعلق بالقلوب، ودائمًا علماء السلوك يهتمون بأعمال القلوب أكثر مما يهتمون بأعمال الجوارح، ولذلك الإمام الغزالي بنى نصف كتابه "إحياء علوم الدين" على أعمال القلوب، فالربع الثالث سماه "المهلكات"، وهذه من أعمال القلوب وبناها على الحديث الذي قال: "ثلاث مهلكات شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب برأي". أما الربع الرابع فسماه "المنجيات" أي الأمور المنجية ومعظمها أو جلها من أعمال القلوب، أي الأعمال الباطنة.

 وإذا كان بعض الناس يركز على العمل الظاهر، فإن تركيز ابن تيمية والغزالي وأمثالهما كان على الأعمال الباطنة، فحتى الأعمال الظاهرة لا يقبل عمل منها إلا بعمل قلبي باطن اسمه النية "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"، كذلك الأعمال الظاهرة، مثل الصلاة، أو الصيام، أو الزكاة، أو الحج، إذا لم يتوافر فيها عنصر الإخلاص فلا قيمة لها (وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ) فلابد من الاهتمام بأعمال القلوب "إن الله لا ينظر إلى صوركم، وإنما ينظر إلى قلوبكم"، وقوله تعالى (إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) و(مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) ومعنى قلب سليم أنه سليم من الشر، ومن النفاق، ومن الرذائل، ومن البدع، ولا ينجو العبد يوم القيامة إلا إذا أتى الله بقلب سليم.

* أشرتم إلى أن العمل الذي يكد فيه ويتعب يعد عبادة، فهل يشمل ذلك مطلق الأعمال؟

العمل غير المشروع لا يعد عبادة قط، وإنما نحن نقول إن آفاق العبادة واسعة جدًّا، لتشمل عمل الخير مثل أن تعمل لإطعام الجائع، ولسقاية العطشان، ولمداوة المريض، ولكفالة الأرملة واليتيم، وكذلك كل أعمال الإغاثة، والجمعيات الخيرية، وجمعيات رعاية الفقراء والمساكين، كل ذلك يعد من أعظم الأعمال لله عز وجل (فَلاَ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) وقوله صلى الله عليه وسلم "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" و"أنا وكافل اليتيم كهاتين، وفرج بين أصابعه"، وقوله تعالى (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً) فكل هذه الأعمال عبادة.

وكذلك حتى العمل المعيشي، الذي يسعى فيه الإنسان لكسب رزقه، وإغناء نفسه وإعفاف أهله، يدخل أيضًا في العبادة، وفي هذا الحديث الشهير أن الصحابة رأوا رجلاً جلدًا نشيطًا، فقالوا يا رسول الله لو كان جلده ونشاطه في سبيل الله، أي في الجهاد، فقال النبي: "إذا كان يسعى على أبوين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على عيال يطعمهم ويعفّهم فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على زوجه فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه ليغني نفسه بالحلال ولا يتكفف الناس ولا يسأل الناس فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياءً ومكاثرة فهو في سبيل الشيطان".

فبين أنه بالنية الصالحة يتحول العمل اليومي الذي يطلبه الإنسان من زراعة، أو صناعة، أو تجارة، أو احتراف بحرفة من الحرف يكون هذا في سبيل الله، وجاء في الحديث "ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة"، وجاء في الحديث الآخر: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". فداود عليه السلام كان ملكًا، لكن كان يأكل من عمل الدروع (أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (وَأَلَنَّا لَهُ الحَدِيدَ)  فكان يأكل من عمل يده، فهذه كلها تدخل في العبادة.

* إذن العمل المعيشي، حتى يكون عبادة لابد أن يتوافر فيه أمران: الأول مشروعية العمل، والثاني وجود النية.

لا، فلابد أيضا أن يؤدى بإتقان، "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه"و "إن الله كتب الإحسان على كل شيء"، وأن تراعى فيه الحقوق والحدود، بحيث لا تظلم أحدًا، ولا تغش أحدًا، وأيضًا ألا يشغله هذا العمل عن واجبه نحو ربه (رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) كل ذلك بجوار النية والإخلاص والمشروعية.

السعي في الأرض

* القرآن عندما تحدث عن العمل، وصفه بأنه فضل الله (وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ)؟

هذا ليس كل عمل، ولكنه أضفى هذا الوصف الجميل على التجارة، وعلى الكسب من الضرب في الأرض (يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ)، (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)، وهذا يوحي بالثناء على هذا العمل، وأن الضرب في الأرض وابتغاء فضل الله، "التمسوا الرزق في خباياها" (فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ) هذا كله يوحي برضى الله سبحانه وتعالى عن هذا العمل.

والمسلم عليه أن يسعى في الحياة، ولا يقبع في بيته بدعوى التوكل على الله، كما رأى سيدنا عمر أناسا بعد صلاة الجمعة قابعين في المسجد، قال لهم: من أنتم؟ قالوا له: نحن المتوكلون على الله، قال لهم: بل أنتم متواكلون لا متوكلون، فلا يقعدنّ أحدكم عن طلب الرزق ويقول اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة وإنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أما سمعتم قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ) وعلاهم بدرته وأخرجهم من المسجد، فهذا هو منطق الإسلام.

* قضية إتيان الشهوة والغريزة، النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ جعل هذا الأمر نوعًا من أنواع العبادة، واستغرب الصحابة من قول النبي، فقال لهم: "أرأيتم إن وضعها في حرام أكان عليه وزر"،  فهل في هذا سبق للإسلام؟

قطعًا، هذا أيضًا من الآفاق الواسعة للعبادة في الإسلام، فالمسلم يأكل ويشرب ويكون أكله وشربه عبادة، إذا كان هذا ليتقوى به في أداء مهمته في الحياة، ويتقوى به في أداء واجبه في طاعة الله وفي خدمة الناس، فيكون الأكل والشرب جزءًا من العبادة والطاعة، وحتى الشهوة الغريزية للإنسان هو ينظر إليها على أنها شهوة مطلقة، لكن الإسلام يجعل الإنسان إذا وضع اللقمة في فيه زوجته له بها صدقة، لماذا؟ لأن الإنسان يقصد بهذا أن يطيب نفس زوجته ويداعبها، فهذه تصبح صدقة، وتصبح عبادة، والحديث في صحيح مسلم "وفي بُضع أحدكم صدقة، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون لها فيها أجر؟، قال: أليس إذا وضعها في حرام كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر".