لم يخطر ببال "خالد"، ذي الأربعين عامًا، أن تكون إصابته بـ"كوفيد-19" مصدرًا لمعاناته من حالة القلق والاضطراب المزدوج ثنائي القطب (الاكتئاب الهوسي)، وفق تشخيص طبيبه المعالج.

يقول "خالد" الذي رفض ذكر اسمه صراحة، في تصريحات لـ"للعلم": أُصبت بمرض "كوفيد-19"، وكان عليَّ الخضوع للعزلة في حجرتي وحيدًا بعيدًا عن أهلي وزملائي في العمل، كنت أخرج فقط لتلقِّي المشورة الطبية، وخوفي من نقل فيروس "كورونا المستجد" إلى أيٍّ من أفراد عائلتي، أصابني بحالة اكتئاب شديدة ما زالت تؤثر عليَّ حتى الآن، رغم شفائي التام من ذلك المرض الذي فرض على الجميع طريقةَ حياة جديدةً ومختلفة.

ويتسبب الاضطراب ثنائي القطب في تقلُّبات مزاجية مفرطة، تتضمن الارتفاعات العاطفية مثل الهوس أو الهوس الخفيف، والانخفاضات العاطفية مثل الاكتئاب.

في هذا السياق، تشير دراسة حديثة أجراها باحثون من جامعتي "نورث وسترن" الأمريكية و"ويتواترسراند" جنوب الأفريقية إلى أنه "منذ فترة طويلة تم الاعتراف بوجود ارتباط بين الاكتئاب وقضايا مثل الجوع والعنف وسوء الرعاية الصحية وارتفاع معدلات الفقر، ولكن هذه الدراسة هي الأولى التي تبحث آثار الإصابة بكوفيد-19 والخضوع للعزل الصحي على الصحة العقلية.

أُجريت الدراسة التي نشرتها دورية "سيكولوجيكال ميديسن" (Psychological Medicine)، على عينة من سكان بلدة "سويتو" الواقعة على بُعد عشرين كيلومترًا غرب مدينة جوهانسبرج، وهي بلدة أغلب سكانها من ذوي الدخل المنخفض، ويقيم فيها أكثر من مليون شخص أغلبهم من السود، ويمثلون هويات عرقية مختلفة، وينتمي أغلبهم إلى الطبقة الوسطى العاملة.

ضمت عينة البحث 957 بالغًا، جميعهم من سكان "سويتو"، الذين سبق أن تم تسجيل بياناتهم في دراسة سابقة استهدفت مراقبة التداعيات الصحية والعقلية -مثل الاكتئاب والقلق- التي تصاحب الإصابة بأمراض مثل السل وفيروس نقص المناعة البشرية وأمراض القلب والأوعية الدموية.

إرث الفصل العنصري

تواصل الباحثون مع أفراد العينة لمعرفة تداعيات تعرُّضهم للإغلاق الوطني، وانتهوا إلى أنه أدى إلى تهديدات خطيرة للصحة العقلية العامة، وخاصةً بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من الحرمان الاجتماعي والاقتصادي.

يقول أندرو وويونج كيم –الباحث في قسم الأنثروبولوجي بجامعة نورث ويسترن، والباحث الرئيسي في الدراسة- في تصريحات لـ"للعلم": اقتصرت الدراسة على الأسابيع الستة الأولى من فرض الإغلاق بسبب كوفيد-19 في جنوب أفريقيا، والتي امتدت من أواخر مارس وحتى أوائل مايو، وتمكنَّا من مقابلة 334 شخصًا. ثم تقلص حجم العينة التحليلية إلى 221 شخصًا فقط، وهو عدد المشاركين الذين لديهم تصوُّر كامل حول علاقة كوفيد-19 بالاكتئاب وغيره من الاضطرابات العقلية.

أكدت الدراسة أن كوفيد-19، وما تبعه من تداعيات، مثل إجراءات الإغلاق الوطني العام والحجر الصحي والعزل، أدى إلى زيادة الضغوط النفسية والاجتماعية على الأُسر الضعيفة والفقيرة والتي تعاني من ظروف سيئة مثل البطالة، وانعدام الأمن الغذائي، ما يزيد من خطر تعرُّضها للإصابة بالأمراض النفسية، خاصةً الأشخاص الذين عانوا –في السابق- من القلق ومن صدمات الطفولة ومن آثار الفقر والحرمان.

وأوضحت النتائج أن "14.5٪ ممن شملهم الاستطلاع معرضون لخطر الإصابة بالاكتئاب، وأن 20% منهم ذكروا أن كوفيد-19 تسبَّب في قلقهم العميق ودفعهم إلى التفكير كثيرًا في الفيروس وتأثيره على أوضاعهم الاجتماعية والصحية".

وفي حين أن الغالبية لا يعتقدون أن كوفيد-19 أثر على صحتهم العقلية، فإن البيانات، وما قاله الناس عن تأثيره على حياتهم، تشير إلى خلاف ذلك.

حالة خاصة

تشير الورقة التي تحتل أهميةً كبيرةً في ظل تصاعُد الحديث حول الموجة الثانية للفيروس، إلى أن "الإغلاق تسبَّب في تزايُد مخاطر التعرُّض للاكتئاب والقلق على الصعيد العالمي، لكن حالة جنوب أفريقيا تُعَد حالةً خاصةً ومختلفة؛ بسبب التاريخ الطويل الذي عاشته من جَرَّاء الفصل العنصري، ما دفع العالم إلى مراقبة كيف سيؤثر الفيروس التاجي الجديد على سكان ذلك البلد من النواحي البيولوجية والاجتماعية والنفسية".

ومنذ تفشِّي جائحة "كوفيد-19"، "مثلت جنوب أفريقيا حالةً ملفتةً لأنظار العالم"، وفق نتائح دراسة أجراها سليم عبد الكريم، رئيس اللجنة الاستشارية الوزارية بشأن فيروس كورونا في جنوب أفريقيا، ونُشرت يونيو الماضي في دورية نيو إنجلاند جورنال أوف ميديسين الشهيرة.

يشير "عبد الكريم" إلى أن "انتشار الفقر والبطالة يعني باختصار أن كثيرًا من الناس الذين يعيشون في مناطق عشوائية، حيث تطبيق الإجراءات الوقائية مثل غسل اليدين والتباعد الاجتماعي أمرٌ صعب؛ إذ تعاني هذه المجتمعات من ضعف خدمات الرعاية الصحية العامة، كما أن أكثر من 80٪ من سكان جنوب أفريقيا ليس لديهم تأمين طبي، وهناك 7.9 ملايين شخص من المتعايشين مع فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز)، فضلًا عن إصابة حوالي ربع مليون شخص بالسل في عام 2018".

يضيف "عبد الكريم": يمكن أن يزيد كوفيد-19 الضغوط الشديدة على نظام الرعاية الصحية المثقل بالفعل، وخاصةً بالنسبة للأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية أو السل، وتلوح في الأفق إمكانية حدوث ضربة مزدوجة مع استعداد جنوب أفريقيا لاستقبال الإنفلونزا الموسمية.

قرار حاسم

يعلق "كيم" قائلًا: كان قرار السلطات جنوب الأفريقية بالإغلاق الوطني حاسمًا مع ظهور أول حالة مصابة بمرض كوفيد-19 بالبلد في مارس الماضي؛ إذ أعلنت الحكومة الإغلاق العام لأنها اكتشفت تزايُد الحالات مع التهاون في الإغلاق. وللأسف كان لانكماش الاقتصاد عواقب مهمة على المدى الطويل، فقد أدت القيود المفروضة على الحركة في مرافق الرعاية الصحية إلى تباطؤ تقديم خدمات الرعاية للأشخاص المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية على سبيل المثال، وقد يؤدي نقص الموارد والاحتياجات الأساسية إلى زيادة مخاطر الصحة النفسية المجتمعية السيئة وانتقال الأمراض المعدية.

ويضيف "كيم": يزداد التأثير النفسي على الأشخاص الذين عانوا من مستويات أعلى من صدمات الطفولة؛ فخلال الأسابيع الستة الأولى من الإغلاق الوطني، تزايدت الضغوط على الأفراد الذين يعانون من الصراعات الأسرية، وتعاطي المخدرات والإفراط في شرب الخمر، وسجن أحد أفراد الأسرة، وإصابة أحد أفراد الأسرة بمرض مزمن.

ويرى "كيم" أنه "من الصعب تحقيق التوازن بين الاهتمام بالصحة العقلية للمواطنين والحد من انتشار المرض بالنسبة للطبقات محدودة الموارد، وأن فكرة عزل المريض قد تكون أكثر سلبيةً من تأثير المرض نفسه، ويعتمد هذا على الظروف المحيطة به".

ويؤكد "كيم" أن عواقب الإغلاق تختلف وفق الظروف الصحية المحيطة بالأشخاص؛ إذ رصد العاملون في مجال الرعاية الصحية والأطباء النفسيين ظهور نتائج نفسية أسوأ بين المرضى؛ نتيجة صعوبة الوصول إلى الأدوية والعلاجات بسبب الحظر الإجباري وانخفاض المخزون الوطني من الأدوية، ما أدى إلى انتكاس المرضى في جميع أنحاء البلاد.

ويتابع: من المتوقع أن يكون للآثار الاجتماعية والاقتصادية للحظر آثارٌ أسوأ وأطول، وهو ما يؤدي إلى عبء نفسي يجب التفكير في تخفيفه، خاصةً أن العواقب النفسية للإغلاق قد تكون أطول من المتوقع.

محدودية الموارد.. مصر نموذجًا

من جهته، يشدد أحمد عرفة -أستاذ الصحة العامة بجامعة أوساكا اليابانية- على أن تأثير العزلة التي فرضها فيروس كورونا المستجد يزداد على المجتمعات محدودة الموارد.

يقول "عرفة" في تصريحات لـ"للعلم": سبق أن أُجريت دراسة بالتعاون مع باحثين من كلية الطب بجامعة بني سويف لتقييم مدى انتشار الاكتئاب والقلق والتوتر وعدم كفاية النوم في مصر خلال جائحة فيروس كورونا.

وأضاف: مصر من أكثر البلدان تضررًا في منطقة شرق البحر المتوسط، في ظل وجود 11228 حالة مؤكدة و592 حالة وفاة، وفق الإحصائيات وقت الدراسة، التي جرت في الفترة ما بين 16 إلى 30 إبريل 2020.

أُجريت الدراسة على 1629 شخصًا من أربع محافظات مصرية (25.0٪ من الإسكندرية، 24.5٪ من القاهرة، 25.1٪ من بني سويف، 25.4٪ من أسيوط)، وكانت أعمار قرابة 48% منهم أكبر من/أو تساوي 30 عامًا، و42.4% منهم من الرجال، و20% يعملون في القطاع الصحي، وذلك في الفترة ما بين 16 و30 أبريل 2020.

طلب الباحثون من المشاركين ملء استبانة لتقييم الخصائص الاجتماعية والديموغرافية، وساعات النوم يوميًّا، والاضطرابات النفسية (الاكتئاب والقلق والتوتر)، وأبلغ المشاركون عن انتشار مرتفع للاكتئاب بنسبة بلغت 67.1٪، وتنوعت شدة الإصابة بين خفيف إلى متوسط ​​44.6٪، وشديد إلى شديد للغاية 22.5٪، في حين ذكر 53.5٪ من المشاركين تعرُّضهم للقلق، وتنوعت شدة القلق بين خفيف إلى معتدل 30.6٪، وشديد إلى شديد للغاية 22.9٪، بينما اشتكى 48.8% من الإجهاد والتوتر، بشدة تراوحت بين خفيف إلى معتدل 33.8٪، وشديد إلى شديد للغاية 15.0٪، فضلًا عن شكوى 23.1% من المشاركين من عدم كفاية النوم (النوم لمدة تبلغ أقل من 6 ساعات يوميًّا)، ما يعني تزايُد احتمالات ارتفاع معدلات الاكتئاب والقلق والضغط العصبي، بسبب الإغلاق وتقييد الحركة في بلد مثل مصر التي تزداد فيها الطبقات منخفضة ومتوسطة الدخل، وتعاني من محدودية احتياطات مكافحة العدوى، وبرامج المراقبة، والقدرات المختبرية، وموارد الصحة العامة، الأمر الذي يجعل الآثار النفسية للوباء على الجمهور أسوأ.

يضيف "عرفة": على الرغم من أن هذه الدراسة قيَّمت الآثار النفسية لوباء كوفيد-19 على عينة كبيرة من مستخدمي الإنترنت من شمال مصر وجنوبها، إلا أننا لا يمكننا ضمان تمثيل المجتمع ككل؛ لأن جميع المشاركين كانوا من مستخدمي الإنترنت الذين يمكنهم القراءة والكتابة، فى حين أن مصر تعاني من ارتفاع معدلات الأمية، ويختلف الأميون اختلافًا كبيرًا عن المتعلمين من حيث خصائصهم الاجتماعية والديموغرافية، ومع ذلك يمكننا القول بأن الآثار النفسية لوباء كوفيد-19 على الجمهور كانت هائلة، خاصةً بين النساء الذين كنَّ أكثر عرضةً للاضطرابات النفسية من الرجال.

الدعم النفسي

يوصي "كيم" بضرورة تقديم الدعم النفسي لسكان المناطق النائية والفقيرة، مضيفًا أن "الدعم النفسي لا يقل أهميةً عن العلاج ذاته، ويجب إعادة تخصيص الأموال لزيادة القدرة المالية للرعاية النفسية والاجتماعية والنفسية، والعمل على توصيل خدمات الدعم النفسي بصورة أفضل، وهو ما انتبهت إليه جنوب أفريقيا، التي تمتلك منصة لـ"التطبيب عن بُعد".

ويتابع: في جنوب أفريقيا، كان لدى أكثر من 96٪ من الأسر إمكانية الوصول إلى هاتف محمول أو خط أرضي وفقًا لمسح الإحصاء المنزلي عام 2018 في جنوب أفريقيا. ومع احتمال حدوث إغلاق ثانٍ سيكون البلد أكثر استعدادًا لتحمُّل آثاره، وسيكون الناس والمجتمعات والمؤسسات أكثر استعدادًا لمواجهته.

من جهتها، تتفق زينب محمد -مدرس الصحة العامة المساعد بطب بني سويف، والتي شاركت في دراسة وصفية مشتركة بين مصر والسعودية حول تأثير التعامل مع جائحة كورونا على العاملين في المجال الصحي- مع توصيات "كيم".

تقول "زينب" في تصريحات لـ"للعلم": أُجريت الدراسة التي شاركتُ فيها على 426 عاملًا في الرعاية الصحية (275 من مصر و151 من المملكة العربية السعودية)، ووجدنا أن نسبة من العاملين في مجال الرعاية الصحية عانوا من الاكتئاب والقلق والتوتر وقلة النوم في أثناء جائحة كورونا؛ إذ عانى 69% من الاكتئاب، و58.9% من القلق،  و55.9% من الضغط النفسي، و37.3٪ من النوم غير الكافي.

تضيف "زينب": التأثيرات ستكون أخف نفسيًّا في حالة الموجة الثانية من كورونا، وسيختلف الأمر من دولة إلى أخرى وفق الإمكانيات وجاهزية الاستعداد، وينبغي الاستمرار في تقديم الدعم النفسي وتوفير المستلزمات الطبية لمَن يعيشون في الأحياء الفقيرة دون تجاهُل تقديم الخدمات نفسها للقائمين على الخدمة الصحية، خاصةً مَن يتعاملون مع كبار السن والأطفال؛ لأنهم يكونون عرضةً أكثر للضغط النفسي من غيرهم، خوفًا من تأذِّي أهلهم.

بدوره، يرى جمال فرويز -الاستشاري النفسي في الأكاديمية الطبية العسكرية- أن الحالة العامة التي يخلقها الوباء، من موجات هلع وغموض للمستقبل، والعزلة الاجتماعية، وغيرها من الظواهر المرتبطة بالوباء ستصيب المناعة النفسية وتجعل أعدادًا أكبر من الأشخاص عرضةً للاضطرابات النفسية وأهمها الاكتئاب.

يضيف "فرويز" أن "تأثير الصدمة سيكون أقل في الموجة الثانية؛ لأن الناس أصبحت أكثر إدراكًا للأمر وأقل تأثرًا بالصدمة"، محذرًا من أن "هذا قد يؤدي إلى إهمال إجراءات الوقاية، ما يستوجب اتباع الإجراءات الاحترازية والتمسك بها، ولكن دون نشر الذعر"، وفق قوله.