«فشارب الخمر يصحو بعد سكرته.. وشارب الحب طول العمر سكرانا» محبرة وقلم

21-10-2017

مشعل عثمان السعيد

هذا بيت جميل درج على ألسنة الناس وغناه المغنون في الماضي والحاضر وراج رواجا كبيرا، فعندما تتأمل هذا البيت ربما تسأل نفسك: ايهما اشد تأثيرا على الانسان الخمر ام الحب؟ هذا الشعر يقول ان الحب اشد تأثِيرا من الخمر فشارب الخمر لابد ان يصحو ويفيق ويذهب تأثيره عنه، لان الخمر له وقت معين وتذهب آثاره، اما شارب الحب فظل طوال عمره سكرانا يعاني تأثير الحب عليه، اي حب هذا الذي يجعل الانسان فاقدا لوعيه طول عمره؟ هذا الشعر لا يقصد الحب الذي يعرفه الجميع بل «الحب الالهي» عند الشعراء الصوفيين، وقد تميزوا بهذا الفن من الشعر، لانهم غارقون في حب الله عز وجل فهذا ابن الفارض عمر بن علي (576 – 632 هـ) يقول:
شربنا علىذكر الحبيب مدامة
سكرنا بها من قبل ان يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها
هلال وكم يبدو ان مزجت نجم
اما صاحب البيت فهو زاهد متصوف اسمه محمد بن سكران بن ابي السعادات، من متصوفة القرن السابع الهجري.
وكان الناس في وقته يسمونه محمد السكران، اما سبب لقبه «السكران» ففيه قولان، الاول انه كان يملك بستانا، فمن اخذ من بستانه شيئا دون اذنه اصيب بحالة من فقدان الوعي، حتى انه لا يستطيع السيطرة على قواه العقلية، فيصبح مثل السكران!! اما القول الاخر وهو الاقرب للواقع هو انه لقب بالسكران لتركه الدنيا، وهيامه بالله تعالى، وقبر هذا الرجل لا زال ظاهرا في رصافة بغداد ناحية الراشدية، ومكتوب عليه تاريخ وفاته 9 شعبان 663 هـ، وهذا يعني انه شهد سقوط الدولة العباسية 656 هـ وعاش بعدها سبع سنين، وهو القائل:
قالوا تسلى عن المحبوب قلت بمن
كيف التسلي وبالاحشاء نيران
ان التسلي حرام في مذاهبنا
وليست ارضى بكفر بعد ايمان
فشارب الخمر يصحو بعد سكرته
وشارب الحب طوال العمر سكران
ذكر صفي الدين في “مراصد الاطلاع” انه الشيخ الزاهد محمد بن سكران بن أبي السعادات مقمر، وانه انشأ رباطا في ناحية المباركة من قرى الخالص، والى جانب الرباط بستان له، يزرعه ويتقوت منه، أوقفه على الفقراء، وانضم اليه جماعة من الصالحين، فانقطع الى العبادة الى ان توفي، ودفن في رباطه، وعلى قبره ضريح من الخشب، وبنيت عليه قبة عالية لا تزال الى اليوم.
وكان الناس في وقته يقولون انه من سلالة سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي رضي الله عنهما، وربما اراد البعض معرفة معنى التصوف، وهو مذهب اسلامي، ولكنه وفق الرؤية الاسلامية ليس مذهبا، وانما احد اركان الدين الثلاثة: “الإسلام – الإيمان- الإحسان” لذا نجد التصوف اهتم بتحقيق مقام الاحسان وهو ان تعبد الله تعالى كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ، والاجتهاد في العبادات وتجنب المنهيات وتطهير القلب من الأخلاق السيئة، اما كلمة صوفي او متصوف فهي مأخوذة من خرقة الصوف التي يلبسها هؤلاء الناس، وهذا الرأي الأشهر وان كان هناك آراء اخرى، وأول ما عرف التصوف بالبصرة، وهناك روايات عدة لتاريخ ظهور التصوف منها: 150هـ -189 هـ بعد المائتين من الهجرة والحديث عن التصوف والصوفية لا يسعه هذا المجال وأول من ظهر منهم البسطامي “261هـ” وهو ابوزيد طيفور بن عيسى، وكان الامام الشافعي ينكر عليهم مذهبهم ويقول: لو ان رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير احمق.
وكذلك الامام: احمد بن حنبل، وجاء بعده الامام ابن الجوزي، الذي ذكر في كتابه “تلبيس ابليس”: الذي قال فيه ان الشيطان جعلهم يتخبطون في الظلمات والله وحده العالم بهم، ومن اعلام التصوف السني معروف الكرخي “ت 200هـ” وسري السقط “ت251هـ” وبشر الحافي “ت227هـ” ومن المتأخرين جلال الدين الرومي “ت672هـ” ومن جميل اشعار هؤلاء الصوفية ابيات ابي منصور الحلاج التي يقول فيها:
و الله ما طلعت شمس ولا غربت
إلا وحبك مقرون بأنفاسي
ولا خلوت الى قوم احدثهم
الا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا ذكرتك محزونا ولا فرحا
الا وانت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
الا رأيت خيالا منك بالكأس
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
سعيا على الوجه أو مشيا على الرأس
مالي وللناس كم يلحونني سفها
ديني لنفسي ودين الناس للناس
أكتفي بهذا القدر
جف القلم ونشفت المحبرة وفي أمان الله

[email protected]