قصة حلم منتصف النهار...!

قصة حلم منتصف النهار...!

قصص على الهواء هي مسابقة القصة القصيرة التي تجريها بي بي سي مع مجلة "العربي" التي نختار فيها كل اسبوع قصة ً جديدة وكاتبا جديدا.

القصة الفائزة تنشر هنا في هذه المساحة وعلى صفحات مجلة العربي، كما تقدم المجلة مبلغا رمزيا للفائز قدره مائة دولار امريكي..

شروط القصة بسيطة وهي الالتزام بخمسمائة كلمة كحد اقصى، ويمكنكم أن ترسلوا نسخة إلكترونية من القصة لبي بي سي إكسترا على العنوان التالي: [email protected] أو او لمجلة العربي. إنها فرصة لنا للاستماع إلى قصص قصيرة مكتوبة بأقلامكم أنتم على الهواء.

........................................................................................

القصة الفائزة لهذا الأسبوع: حلم منتصف النهار...!

عندما تركت الورقة المكتوبة الى النصف. كانت امي ترتق ثياب اخوتي الصغار , وبجانبها سلة مليئة بالبياضات. في اللحظة التي مررت بها صوب السلم خلف ظهرها وقفت عن سحب الابرة . رفعت عينيها ورمقتني بنظرة استغراب . ادركت حينها تساؤلها عن سبب ذهابي الى غرفتي مبكرا . لكني تحاشيت ذلك بتسريع خطواتي نحو السلم . خلف ظهري كان اخوتي الصغار لا يزالون يعبثون ويشاكسون امي بلعبهم الصبيانية . وانوار البيت مضاءة ما جعل استغراب امي مبررا ( تعودت ان اكون اخر من يصعد درجات السلم ويطفىء اضواء البيت ).

امي التي جاوزت الأربعين ، هادئة الطباع , تشغل نفسها دائما باعمال بسيطة في المنزل على الرغم من اخوتي الصغار الذين يثيرون غضبها بين الحين والاخر .. منذ سنين طويلة وهي تقتل وقتها برتق الملابس .. حتى التي ضاقت على اجسادنا وقصرت عن اطوالنا ... كثيرا ما كنت اشاكسها لتتوقف عن عملها وتسحب الابرة واضعة اياها في ثقب انفها . الحركة التي تجعلني اضحك بقهقهة عالية , لقد صنعت من انفها حمالة لابرتها بعد ان فقدت خزامتها التي تباهت بها حيثما ذهبت عندما كانت شابة جميلة .

دخلت غرفتي , تمددت على السرير , من دون ان اضغط على زر المصباح . ضايقتني الظلمة وتسارعت الكلمات والصور تتزاحم فوق رأسي . تلك الجمل التي سطرتها على الورقة المكتوبة الى النصف ..؟ هي قصة تركتها غير كاملة مع الاوراق المنثورة فوق المنضدة بعد ان داهمني الاشمئزاز والتناقض ...

القصة تحكي حياة اسرة مطمئنة فرحة , حيث الام بقوامها الرشيق وثوبها المزركش بالورود البنفسجية . تنشر في البيت هالة من الضياء . والطفلة الصغيرة تداعب باصابعها اللينة دميات ثلاثا علقت في مقدمة ( الحجلة ) التي تدفعها باقدامها التي تشبه اصابع الحلوى على سجادة ناعمة . والاب جالس قبالتها يضع نظارة طبية على عينيه ويقرأ كتابا . وبين الحين والاخر وكلما احس بغشاوة على عينيه اثر استمراره في القراءة يرفع نظارته ويمسح زجاجها بمنديل ورقي ، يرمق ابنته الصغيرة بنظرة حب ويعطي عينيه فرصة للضوء ، لتعيد نشاطها . كان البيت هادئا تغمره اشعة الشمس . هكذا يصور مطلع قصتي المنقوصة حال الاسرة ...

اغمضت عيني وغفوت .. بعد مسافة زمنية لم اعرف طولها . افزعني وميض فضي صارخ تلاه دوي انفجار هائل مزق احشاء الغرفة وعصف شديد يقذف الاشياء ( جص ،حجارة ،شراشف ،زجاج نوافذ ) مثل بحر هائج يتقيأ ما في بطنه ..

الدميات الثلاث المعلقات في مقدمة ( الحجلة ) تقطعت اوصالها . وتدحرج رأس احداهن تحت كرسي الاب بجوار اطارات نظارته الطبية .. اشلاء المرأة تتطاير . والطفلة مقذوفة بين ( الحجلة ) والاريكة . الاب ينزف سائلا ارجوانيا على السجادة الناعمة ويده اليمنى التي تمسك الكتاب .. بعيدة عنه .! رشقة من حصى ناعم يحطم زجاج الصورة المعلقة على الجدار ..التي جمعت الاب والام وهما يحتضنان ابنتهما الضاحكة بين ذراعيهما .. ثوب الام المزركش بالورود البنفسجية تعلق على اذرع المروحة السقفية . ورأسها المقطوع يحافظ على ثغر مبتسم وعينين مفتوحتين . ثمة قطع من اللحم البشري التصقت على الجدار الذي فقد لونه .. زحفت الى الزاوية الاخرى ابحلق بعيني .. لقد زحف الموت نحوي .. التصقت بالجدار خائفا مرعوبا .. لقد غطى التراب والغبار فضاء الغرفة .. كان التنفس صعبا . اخذت اختنق .. لم استطع رفع يدي .. خرت قواي وتلاشت كل محاولات المقاومة . في لحظة تشبث بالحياة انبثقت صرخة مدوية من فمي المملوء بالتراب .. ايقظتني من ذلك الكابوس الذي نسف عائلة قصتي السعيدة نهضت من فراشي و جلست على حافة سريري متشنج الاعصاب وبعد ان مددت يدي على وجهي اجفف العرق المتصبب على خدي لم ار شيئا غير رائحة الانفجار .. عادت الكلمات المرسومة في القصة المنقوصة مرتدية ثوب ضيائها وفرحها ... وبدأت دقات قلبي تنزل الى قاع الهدوء . واعصابي تتراخى مع نسمة الهواء الخفيفة التي انسلت من وراء الستارة .. تركت فراشي وذهبت الى مكتبتي بحذر لاتفادى ايقاظ امي التي توسدت بياضاتها على الاريكة . دخلت غرفة المكتبة . كان البيت ساكنا والجو باردا . ولم يحرك الصمت الذي ساد ارجاءه غير صوت البندول الصارخ في جوف الساعة المعلقة على الحائط امامي . بدأ قلبي يخفق مرة اخرى . ويداي ترتجفان وانا امسك الورقة التي كتبت عليها قصتي المنقوصة ..

وقفت ازائها مذهولا . كيف يمكن ان انهي سعادتها واسترسل في ربيع كلماتها . حبست انفاسي اذ لم اكن مهيئا لهذه الاشكالية التي وجدت نفسي اخوض في مياه بحرها العاتي .. بين الكابوس الذي داهمني ومسار قصتي . احسست بانهيار كل شيء من حولي .

( في الحقيقة لا ادري ما افعل ..! ) كم تمنيت ان اخرج من مدينة افكاري . واجعل قصتي تخط دروبها بحرية تامة . ثمة شخصان يسكنان فيّ . واحد يدفعني الى اشراقة الحب والامان التي تكللت بها قصتي ، وأخر يشدني الى الكابوس الذي داهمني دماره الذي احبط عزيمتي .أي شيء اكتب واية ثيمة تحويها قصتي .! بقيت حائرا بين هذا وذاك ..!!

يكاد عقرب الساعة يلتهم السادسة صباحا . وانا لا ازال في مكتبي حائرا . رأيت الحياة مشرقة ومظلمة في آن واحد .هناك خطوط متشابكة مثل بيت العنكبوت تنسج امام ناظري . وبما ان افضل المراحل هي الاتية بلا شك . فأني تركت قصتي من دون ان ادون بها صورة الكابوس الذي داهمني فجأة ! وبالقدر ذاته لم استطع ان انهيها بتصور خيالي بعيدا عن معاناتي . فثمة حد معين لا يمكن ان نفهم اين تكمن الحقيقة . طويت اوراقي ووضعتها في درج مكتبي وظلت يدي فوقها .. بقيت لحظة جالسا وراء المنضدة .. بعدها نهضت واطفأت المصباح المتأرجح فوق رأسي من دون ان انظر الى الاوراق الباقية ..!

عندما صعدت الشمس اسيجة البيوت خرجت للحديقة . قابلني شعاعها الذي غسل الاعشاب بضوء باهر . وزقزقة العصافير تعزف سيمفونية ناعمة . وزهرة عباد الشمس تدور صوب قرص الشمس . غمرتني هنيهة ابتهاج وعرفت ان الحياة لا تتوقف . أي شيء اختار .!؟

ثمة مجرى نهر متدفق ينساب في داخلي . ويبعث الامل ( ان الطريق صعب ! ) يجب ان ندرك هذه الحقيقة .

رجعت الى مكتبتي . فتحت نوافذ الغرفة . ابتلعت الشمس كل الموجودات . وبقي ظلي منكسرا خلف الكرسي الذي جلست فيه . سحبت اوراق قصتي المندسة في الدرج واكملتها بمداد ابيض يشبه طيور النورس السابحة في السماء .