سُبُل الإجابة… كما ورد في سورة الاستجابة

الرئيسية » بصائر تربوية » سُبُل الإجابة… كما ورد في سورة الاستجابة
دعاء-شهر-رمضان-2020-1

إن غاية ما يتمناه العبد من الله تعالى هو أن يستجيب لدعائه إذا دعاه، وأن يحقق له ما يتمناه، وأن يصرف عنه بلواه، ولمثل هذا يعمل العاملون.

سبب تسمية سورة الأنبياء بـ "سورة الاستجابة"

إن "سورة الأنبياء" أطلق عليها العلماء اسم "سورة الاستجابة"؛ لأنها السورة الوحيدة من بين سور القرآن الكريم التي ورد فيها قوله تعالى: "فَاسْتَجَبْنَا لَهُ" وتكرر ذلك أربع مرات مع أربعة من أنبياء الله تعالى، وهم حسب ترتيب السورة (نوح، أيوب، يونس، زكريا) عليهم جميعاً من الله السلام.

أولاً/ استجابة الله تعالى لنبيه نوح عليه السلام

قال تعالى: {وَنُوحاً إِذْ نَادَىٰ مِن قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 76، 77].

إن سرعة استجابة الله تعالى لدعاء نبيه نوح -عليه السلام- تُثلج صدره، وتُنسيه همه، وتفرِّج كربه، وتزيل عنه العناء، وتخفف عنه الآلام، بل وتشعره -عليه السلام- بأنه قد بلغ الرسالة وأدى الأمانة، وأن ربه قد تقبل جهده وشكر سعيه، لذا أخذ المشركين من قومه أخذ عزيز مقتدر.

إن موقف نبي الله نوح -عليه السلام- فيه سلوى لكل من بعده من الأنبياء والرسل، وسلوى لكل أتباعهم ومن ساروا على نهجهم أن من أنقذ نوحاً ومن معه وأغرق الأرض كلها من أجلهم، قادر على حفظهم وتأييدهم ونصرهم، ما داموا لله عاملين، وللتضحية باذلين، وعلى الإيذاء صابرين، وعلى ربهم مُتوكلين، وإليه مُنيبين.

وفي موقف نبي الله نوح - عليه السلام - مع قومه درس عملي أن كرامة المؤمن عند الله تعالى عظيمة، فقد أغرق الله تعالى الأرض بمن عليها من أجل جماعة من المؤمنين لم يبلغوا المائة فرد .

إن من أنقذ نوحاً ومن معه وأغرق الأرض كلها من أجلهم، قادر على حفظهم وتأييدهم ونصرهم، ما داموا لله عاملين، وللتضحية باذلين، وعلى الإيذاء صابرين، وعلى ربهم مُتوكلين، وإليه مُنيبين

ثانياً/ استجابة الله تعالى لنبيه أيوب عليه السلام

قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ۖ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَىٰ لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء: 83، 84].

قال ابن القيم - رحمه الله - في الفوائد: "جمع هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد، وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه، ووجود طعم المحبة في التملق، والإقرار له بصفة الرحمة، وأنه أرحم الراحمين، والتوسل إليه بصفاته سبحانه، وشدة حاجته هو وفقره، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه".

إن حياة نبي الله يعقوب - مثلها مثل حياة كل الأنبياء والمرسلين - تعلمنا أن الابتلاء هو أصل الدعوات وأن المسلم لا يُمكّن له حتى يُبتلى .

وتعلمنا أن عاقبة الصبر والرضا بالقضاء كلها خير.

وتعلمنا أنه من يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب، وأن من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وأنه بالصبر واليقين يكون التمكين وتكون الإمامة في الدين.

وتعلمنا أن من يدعو ربه مُوقناً خاشعاً مُتبتلاً مُفتقراً متذللاً يُستجاب له مهما كانت مسألته ، فأمره -سبحانه وتعالى- بين الكاف والنون.

وتعلمنا أن الله تعالى إذا رضي أعطى وإذا أعطى أدهش بعطائه، وشتان الفرق بين عطاء الدنيا وعطاء الآخرة.

وتعلمنا أن الابتلاء ليس معناه هوان المُبتلَى على الله تعالى ولكنه يكون للأولياء تطهيراً وتمحيصاً واجتباءً واصطفاء.

وتعلمنا أن وقت الشدائد لا يثبت بجوار المُبتلى إلا الصادقين الأوفياء، مثلما حدث من زوجة أيوب عليه السلام وصديقيه.

وتعلمنا أن الشكوى إلى الله تعالى لا تتنافى مع الصبر؛ فالشكوى لغير الله مَذلة ولكن الشكوى إلى الله مَكْرمة ، وكما جاء في الحديث الشريف "مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ" (رواه الترمذي).

وتعلمنا أن نتأدب في اختيار مفردات الدعاء، فنبي الله أيوب - عليه السلام - قال: "أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ" ولم يقل "أنت مسستني بالضر"، وهو نفس الأسلوب الذي استخدمه نبي الله إبراهيم -عليه السلام- حين قال: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" ولم يقل "وإذا أمرضني فهو يشفين".

ثالثاً/ استجابة الله تعالى لنبيه يونس عليه السلام

قال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 87، 88].

عن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: "دعوةُ ذي النُّونِ إذ دعا وهو في بطنِ الحوتِ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانَك إنِّي كنتُ من الظالمينَ فإنَّه لم يدعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ قطُّ إلَّا استجاب اللهُ له" (رواه الترمذي).

مما حدث مع نبي الله يونس -عليه السلام- نتعلم أن حال المؤمن مع ربه في الرخاء يكون سبباً للتخفيف عنه عند البلاء ، قال تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143، 144].

ونتعلم أنه لا حاد ولا مانع لرحمة الله تعالى إذا أذن بها، فقد كان نبي الله يونس -عليه السلام- في ظلمات ثلاث (ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت) ورغم ذلك أذن الله تعالى بتفريج الكرب عنه.

ونتعلم أن صدق التوجه إلى الله تعالى، وإظهار الذل والافتقار وقِلة الحِيْلة إليه سبحانه، أدْعَى إلى قبول الدعاء .

ونتعلم أنه على الداعية أن يكون صبوراً حليماً؛ لأن هذا أدْعَى لسرعة إقبال الناس عليه واستجابتهم لما يدعوهم إليه.

على الداعية أن يكون صبوراً حليماً؛ لأن هذا أدْعَى لسرعة إقبال الناس عليه واستجابتهم لما يدعوهم إليه

رابعاً/ استجابة الله تعالى لنبيه زكريا عليه السلام

قال تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَىٰ وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 89، 90].

كانت نفس نبي الله زكريا -عليه السلام- تتوق إلى الولد، فذلك أمر فطري في نفس كل إنسان، وكان يريد أن يجعل الله تعالى من صُلبه من يرث الحكمة والرسالة من بعده، خاصة أن مَواليه وأبناء عُمومته قد بلغ بهم الفساد ما يجعله يخشى منهم تبديل الرسالة من بعده أو تركها وإضاعتها.

قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:4-6].

إن قصة نبي الله زكريا - عليه السلام - تعلمنا ألا نقطع الرجاء في الله مهما انقطعت الأسباب .

وتعلمنا أن من أسباب استجابة الدعاء التضرع والابتهال وإظهار الضعف والافتقار بين يدي الله تعالى.

وتعلمنا أن الله تعالى إذا أعطى أذهل بعطائه؛ لأنه سُبحانه لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه وأزال عواقبه وأتمه.

وتعلمنا أن فِعل الخير عاقبته يُسْر، وأن من خالط الصالحين ناله من خيرهم ولو كان نبياً مُرسلا.

خامساً/ سُبُل الاستجابة كما ورد في سورة الأنبياء

بعد الانتهاء من ذكر الأنبياء الأربعة، وهم (نوح - أيوب - يونس - زكريا) عليهم السلام، عقَّب الله تعالى بقوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً ۖ وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90].

إن سر استجابة الدعاء - بل فورية استجابة الدعاء - لخصته الآية في أمور ثلاثة، وهي:

1. يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ

من اللطائف أن الله تعالى قال: "يُسَارِعُونَ" ولم يقل (يُسْرعون) فمن المعروف -لغوياً- أن زيادة المبنى دليل على زيادة المعنى، فيكون المعنى (يُسْرعون إسراعا).

إن باغي الخير وفاعله دائماً ما يتحرك بهمة عالية، ونفس تواقة، ورغبة مُلحة، وبذل لا يتوقف ولا ينتهي، وكأن حال كل واحد منهم يقول: "لن يسبقني إلى الله أحد".

إن السباق في فعل الخيرات دليل على حسن الإيمان، وصدق اليقين، ومحبة رب العالمين .

والسباق في فعل الخيرات سبب لتفريج الكروب، وستر العيوب، واستجابة الدعاء، وقبول الرجاء، وسعادة الدارين.

السباق في فعل الخيرات سبب لتفريج الكروب، وستر العيوب، واستجابة الدعاء، وقبول الرجاء، وسعادة الدارين

2. وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً

قال ابن عطية: "وتلخيص هذا أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرَّغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الرَّاح نحو المطلوب منه، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك، والرَّهب من حيث هو دفع مَضرة يحسن معه طرح ذلك، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه".

إن الدعاء عُدة العارفين الأكياس، وسلاح من لا سلاح له، وركن من لا قوة له، لا يُدفع به ذنب دون ذنب، ولا يُفرَّج به كرب دون كرب، فالأقوياء والضعفاء والمذنبون والأولياء لا غنى لهم عن الدعاء .

إن الدعاء سهم أول مُراده شِسْع النعل ومِلح الطعام ومُنتهى مداه هو الفردوس الأعلى، متى أطلقه العبد بكامل شروطه يعلم أنه صائب لا مَحالة عاجلاً كان أم آجلاً، فلا يتعجل الإجابة ولا يمَل من الإنابة.

3. وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ

إن الدعاء ليس بطوله، ولا بتنميق مفرداته، ولكن بحال صاحبه مع خالقه، وبمنزلة ربه في قلبه .

إن مما استعاذ منه النبي - ﷺ - القلب الذي لا يخشع، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال: "اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الأربعِ: مِن علمٍ لا ينفعُ ومِن قلبٍ لا يخشعُ ومِن نفسٍ لا تشبعُ ومن دعاءٍ لا يُسمعُ" (رواه أحمد).

قال سهل بن عبد الله التستري: "شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال".

إن الذنوب تقسِّي القلب، وتحُوْل بينه وبين الخشوع والتلذذ بالطاعة، والخشوع يتحقق بقدر اجتناب الذنوب وعدم التجرؤ على اقترافها.

وأخيراً أقول

إن الاستجابة ليست قاصرة على الأنبياء فحسب، بل إن كل من سار على دربهم واهتدى بهداهم داخل ضمن من يستجيب الله تعالى لهم.

إن الله تعالى عندما استجاب لنبيه أيوب عليه السلام قال: {رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}، فكل العابدين عبادة صحيحة خالصة هم أهل لأن يستجيب الله لدعائهم.

وعندما استجاب الله تعالى لنبيه يونس عليه السلام قال: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ۚ وَكَذَٰلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ}، فكل المؤمنين أهل لأن يستجيب الله لدعائهم.

اللهم ارحم ضعفنا وقلة حيلتنا واستجب دعاءنا ولا تخيِّب فيك رجاءنا.

معلومات الموضوع

اضغط لنسخ رابط مختصر لهذا المقال
خبير تربوي وكاتب في بعض المواقع المصرية والعربية المهتمة بالشأن التربوي والسياسي، قام بتأليف مجموعة من الكتب من بينها (منظومة التكافل في الإسلام– أخلاق الجاهلية كما صورها القرآن الكريم– خير أمة).

شاهد أيضاً

“بروباجندا” الشذوذ الجنسي في أفلام الأطفال، إلى أين؟!

كثيرًا ما نسمع مصطلح "بروباجاندا" بدون أن نمعن التفكير في معناه، أو كيف نتعرض له …