كثيرون في هذه الحياة يستعملون ذكاءهم في اتهام الآخرين دون دليل مؤكد، بل لمجرد الاشتباه والظن وبعض القرائن التي يجمعها ذكاؤهم ثم يصدر حكم الاتهام، وكثيرا ما يكون حكما جازما، فذكاؤهم - في اعتقادهم - لا يضل ولا يزل ولا يخون!

سبحان الله العظيم!

الله وحده هو علام الغيوب.. ولكن هؤلاء يعتقدون أن ذكاءهم المفرط وظنهم الذي يثقون به قادران على القفز بسرعة عجيبة من المقدمات إلى النتائج، ومن الشبهات إلى الأحكام الجازمة الحاسمة!

وهؤلاء يستخدمون ذكاءهم في اتهام الآخرين إما اتهاما مادياً أو معنوياً!

ويسرعون في تحويل الاتهام إلى يقين أو ما يشبه اليقين، وعلى الطرف الآخر أن يثبت البراءة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

عليه أن يثبت البراءة إذا كانوا قد وجهوا له الاتهام مباشرة، وصارحوه به مصارحة، بل هجموا عليه به وفاجأوه، وهم يفعلون هذا - عادة - في الاتهامات الملموسة المادية أو شبه المادية كأن يسرق منهم شيء، أو يضيع وهم لا يشعرون، فيسرعون إلى اتهام الخادمة مثلا، ظانين بأن ذكاءهم لا يخيب ولا يخون!

وقد يتهم الرجل زوجته بالخيانة - والعياذ بالله - بناء على قرائن أوجدها هو، وإن كانت موجودة فهي لا تدل على الخيانة بالضرورة، ولكن ذكاءه المزعوم يدل على ذلك ويصر عليه!

وقد تتهم المرأة زوجها بالخيانة - لا سمح الله - بناء على شبهات صنعها خيالها والتماسها للأدلة، أو شبهات موجودة فعلا ولكنها لا تعني الخيانة أو الوصول إليها، ولكن تلك الزوجة وبناء على ذكائها الذي تعول عليه كثيرا تقفز إلى أسوأ الأمور وتكاد تجزم بذلك!

وقد تقول أنها تستخدم ذكاءها الصادق وحسها الذي لا يخيب، وكأن حسها هذا يعلم الغيب!

ونحن لا نتحدث هنا عن المصابين بالغيرة المرضية والشخصية البانورية فهؤلاء أقرب إلى العذر لأنهم مرضى ويحتاجون للعلاج الطبي.

نتحدث عن أناس أسوياء ولكنهم متسرعون مغرورون بذكائهم المحدود، فهم في العادة ليسوا من الأذكياء جدا، ولكنهم من المتوسطين، والمشكلة دائما من أنصاف العلماء وأنصاف الأذكياء، أنصاف العلماء هم الذين يطلقون الأحكام الجازمة في أمور لم تثبت تماما، أما العلماء حقا فهم متواضعون ويعرفون حدود ما يعرفون، فإذا تحدثوا عن أمر لم يثبت لهم بالدليل القاطع قالوا: لعله كذا.. وربما يكون كذا.. وتركوا الباب مفتوحاً للنقاش والبحث والحوار والاكتشاف للوصول للحقيقة بعد تثبت وبحث وتمحيص..

أنصاف العلماء.. وأنصاف الأذكياء.. يبدو أن وقتهم أثمن من ذلك، فهم يجزمون بسرعة، ويلصقون التهم، وهم بما لديهم من ذكاء فخورون.. وبظنهم الذي لا يخيب فرحون !

وهؤلاء الذين يستخدمون ذكاءهم في الحكم على الآخرين، مطمئنون إلى مصداقية ذلك الذكاء، متعبون جدا مـن الناحية الاجتماعية..

يٌتعبون زملاءهم في العمل..

وزوجاتهم وأولادهم وأقاربهم وخدمهم... ويتعبون أصدقاءهم في درب الحياة.. ويتعبون جلساءهم ومعارفهم..

لماذا؟

لأنهم كثيراً ما يظلمون هؤلاء بإلصاق تهمة مابهم، اليوم أو غداً، ويبنون عليها ويتخذون المواقف ويشرعون في التصرفات!

قد يتهم الواحد منهم زميلاً له في العمل أنه يشي به إلى المدير، ويكذب عليه، ويشوّه سمعته، ومع أنه ظالم له بهذه التهمة، ولكن إما أنه لا يحبه ولا يرتاح إليه فيعتقد أنه مثله، وأن خلق الزميل أسوأ منه قد دفعه كرهه إلى تشويه سمعته.. وإما أنه يظن فيه ظن السوء..

أو أنه جمع قرائن واهية، وقد تكون مصادفات مضحكة، وبنى عليها حكماً كالجبل!

فلو دخل هذا على مديره بعد خروج ذلك الزميل منه، مثلاً، ثم وجد المدير يقطب في وجهه، ولا يعبّره، فإنه يستنتج من ذلك أن زميله قام بتشويه سمعته، ونقل كل صغيرة وكبيرة إلى مديره، وزاد عليها وكذب.. الخ.. ثم يجمع هذه الصدفة مع صدف أخرى وقرائن مختلفة - وكل من بحث عن شيء وجده أو وجد ما يقاربه - فيصدر حكمه الظالم على ذلك الزميل.

هذا مجرد مثال قس عليه أشياء كثيرة يمارسها الذين يعولون على ذكائهم المجرد في اتهام الآخرين..

وذكاؤهم هذا سريع الاستنتاج حاسم الأحكام، فهم لا يعرفون بعده وجوب التثبت والتروي، ويخيل إليهم أنهم لا يحتاجون للتثبت والتروي لأن ذكاءهم - المحدود في الواقع - قد أسكرهم وذهب بعقولهم وطمس أبصارهم عن رؤية غير ما يشتهون..

ذكاء مثل هذا يشبه السيارة بلا فرامل تدوس من حولها، وتصدم على غير هدى!

وتلك الصفة، وهي الحكم بناء على الذكاء المجرد، دون تثبُّت، نوع من الحماقة، والتعامل مع الأحمق يخلق المشاكل!

إن العاقل - وهو عكس الأحمق بالطبع - يدرك ضرورة التأني والتثبت وعدم صحة بناء الأحكام على الشبهات والظواهر واستنتاج الذكاء المحدود بطبعه والذي يميل مع الهوى.

ويعلم أن الوصول إلى الحقيقة في غاية الصعوبة، وقطعاً لا يكفي للوصول إليها ظنون وشبهات وما استخدام الذكاء في مثل تلك الأمور الا نوع من الظن، وإن بعض الظن إثم، لمجرد أنه ظن فهو اثم، أما إذا ترتب عليه مهاجمة للآخرين ومصارحة لهم بالاتهام فهو الظلم بعينه، والظلم من أسوأ الأمور، وطالما كان الأمر في حدود الشكوك فالمذنب بريء حتى (تثبت) إدانته، ونضع خطين تحت كلمة (تثبت).

التثبت لا يكون باستخدام الذكاء مهما بلغ، لابد من الأدلة الخارجية الملموسة والتي لا تقبل التأويل أو التعليل، حتى القاضي في الفقه الإسلامي لا يصح له أن يقضي بعلمه بل بالأدلة الموضوعية التي تقدم له..

لقد أمرنا الله عز وجل بالتثبت والتبين قبل أن نتهم أحداً..

قال عز وجل:

{ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.

سورة الحجرات الآية

6ونهانا الله عز وجل عن اتباع الظن:

{وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يغني من الحق شيئاً}.

سورة يونس الآية:

36واستخدام الذكاء المجرد في اتهام الآخرين دون دليل مؤكد هو نوع من الظن الذي لا يغني عن الحق شيئاً، وصاحب ذلك الذكاء يظن أن استنتاجه (هو الحق) مع انه ليس كذلك..

ويقول سبحانه وتعالى:

{إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}.

والخرص فيما أعرف هو التخمين بناء على الذكاء والحس وهو يشبه الذي يخبط خبط عشواء!

ويقول تبارك وتعالى:

{ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم} سورة الحجرات الآية

12.وفرعون استخدم ذكاءه في الحكم على موسى عليه السلام، وعمل بناء على ذكائه الغبي الذي هو في حدود الظن فأهلكه:

فقال له فرعون إني لأظنك ياموسى مسحورا} سورة الإسراء الآية

101وقال عز وجل:

{وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون}

الجاثية الآية

24.فالذي يستخدم ذكاءه في اتهام الآخرين يعتبر أن ذكاءه هذا (علم) مع أنه مجرد ظن في الواقع..

ويقول الله عز وجل:

{والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً} الأحزاب الآية

58واتهام الناس بناء على الظنون التي أوحى بها ذكاء كثيرا ما يخون فيه أذى شديد لهؤلاء المتهمين وبهتان لهم بغير وجه حق.

والآيات والأحاديث في هذا المعنى العظيم كثيرة، وهي توجّه الإنسان إلى ما فيه الخير، خير الفرد والجماعة، والدنيا والآخرة، فإن الاعتماد على الظنون التي ولدها الذكاء المجرد والفج غالبا) يجعل صاحبه يقع في المزالق والمطاب المردية، ويؤذي نفسه ويؤذي غيره، ويجرح ضميره ويجرح كرامة الآخرين، فما في الشكوك والظنون السود خير.. ولا في العجلة والتسرع فائدة.. ولا في اتهام الناس بدون دليل قاطع إلا إطلاق الشر، والإعلان عن سوء النية وقبح الطوية، وكثيرا ما يدل ذلك على سوء الفعل وسوء النفس فإن الشاعر يقول:

إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه

وصدَّق ما يعتادُهُ من توهُّمِ