العلاقات قبل الزّواج.. والحصاد المرّ
استشرت في المجتمعات المسلمة عامّة، وبين المجتمع الجزائريّ خاصّة، خلال السّنوات الأخيرة، ظاهرة الصّداقة بين الشّباب والفتيات، بحجّة “التّعارف” و”التّآلف” قبل الزّواج، وغدت أمرا مألوفا، لا يلقى أيّ نكير عند كثير من النّاس، بل إنّ بعض الأسر أصبح أولياء الأمور فيها يُشيرون على من يفكّرون في خطبة بناتهم، بأن يحدّثوهنّ مباشرة، ويقضوا معهنّ من الوقت ما يكفي ليتعرّف كلّ طرف على الطّرف الآخر ويكتشف طريقة تفكيره! وينظر إن كان يصلح لأن يكون شريكا له في حياته! وأصبحت بعض الأمّهات خاصّة، يوصين بناتهنّ بالتفتّح على الشّباب لأجل اختيار شريك الحياة المناسب!
قبل عقود قليلة، كانت هذه العلاقات تتمّ خلسة، وبعيدا عن أعين الوالدين والأولياء، وكان ينظر إليها بعين الرّيبة، لكنّها وبسبب الرّكون إلى وساوس الشّيطان واتّباع خطواته، وبسبب العكوف على المسلسلات التي روّجت لهذه الظّاهرة، وجعلتها ضرورة من ضرورات العصر، وعلامة من علامات التفتّح والتحضّر، أصبحت مبرّرة لدى أكثر الأسر، حتى غدا التعارف قبل الزّواج ومعرفة طريقة تفكير الطّرف الآخر، ذريعة ليس لخروج الفتاة مع الشابّ بعد العقد الشّرعيّ فقط، وإنّما أيضا قبل الخطبة، وربّما يصل الأمر إلى حدّ يصبح فيه الشابّ والشابّة يتصرّفان كالزّوجين تماما، يحضر إلى منزل أهلها وينادي عليها وقت ما شاء، ويخرج بها إلى حيث شاء، ويخلو بها في السيارة وأماكن الرّيبة، بل قد بلغ الأمر في بعض الأحيان إلى حدّ مقارفة فاحشة الزّنا، وهي الفعلة الشّنيعة التي ربّما تجد مبرّرا لها عند أهل الشابّ وأهل الفتاة، بأنّ ما وقع لا يستدعي القلق، ما دامت العلاقة ستتوّج بالزّواج!
علاقات محرّمة لا يجوز تبريرها
لقد أصبح كثير من الأسر لا يهتمّ بمعرفة الحكم الشّرعيّ لمثل هذه العلاقات، ما دامت من ضرورات الواقع المستجدّ! وكثير من الشّباب يختلقون المبرّرات والأعذار الواهية للالتفاف على حرمتها الواضحة بالنّقل والعقل، فتسمع من يقول إنّه لا يرى أنّ مثل هذه العلاقات محرّمة ما دام الطّرفان لا يقعان في الحرام(!) وتسمع من تقول إنّها لا ترى مشكلة في هذه العلاقات ما دامت نية الطّرفين سليمة(!) ومن تقول إنّها جائزة ما دامت الأُسر على علم بها(!)… إلى آخر ما هنالك من المبرّرات التي يسوقها شبابنا الذين قلّ علمهم بالشّرع وبأصوله ومقاصده، وإلاّ كيف لهذه العلاقات التي ما عادت تفاصيلها ونهاياتها تخفى على أحد، كيف لها أن تكون مباحة، والله جلّ وعلا يقول: ((فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا))؛ فإذا كان اللّين في القول محرّما، فكيف بالمحادثات الطّويلة؟ وكيف بالاسترسال في النّظر؟ وكيف بالخلوة التي قال النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في شأنها: “ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشّيطان ثالثهما”؟ ثمّ هل يشكّ عاقل في أنّ هذه العلاقات التي تقام قبل الزّواج، هي من الطّرق التي ذلّلها الشّيطان لإيقاع شباب المسلمين في الفاحشة الآثمة، ومعلوم أنّ الله -جلّ وعلا- لم يحرّم الزّنا فحسب، وإنّما حرّم كلّ ما يؤدّي إليه، فقال جلّ شأنه: ((وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا)).
فساد وفواحش ونهايات مؤسفة
إذا كان بعض شباب وفتيات المسلمين لا يعتبرون بنصوص الشّرع وأقوال العلماء، فهلاَّ اعتبروا بالحصاد الذي جناه من ساروا على هذه الطّريق؛ فكم من عفيفة طاهرة تحوّلت إلى بغيّ فاجرة، تنتقل من ذئب إلى آخر، تُمنّى في كلّ مرّة بالزّواج والأسرة السّعيدة والعيشة الهنيّة، ثمّ يتخلّى عنها الذّئب بعد أن يقضي منها نهمه، ويفاجئها بقوله إنّه لا يمكنه أن يثق فيها، لأنّها كما خانت مرّة، يمكن أن تخون كلّ مرّة، وربّما يبعث إليها أحد أصدقائه ليبدأ معها رحلة جديدة، تبدأ من البداية نفسها، وربّما يصل الأمر إلى أخذ الصّور التي تصبح وسيلة للابتزاز، وبداية حبل لا تُعرف نهايته، تُجرّ به تلك الغافلة في كلّ مرّة إلى الفاحشة الآثمة، لتتحوّل إلى فتاة شارع بعد أن كانت مصونة بين أهلها.
وما يقال عن بعض الشّباب يقال أيضا عن كثير من الفتيات اللاتي يسوّل لهنّ الشّيطان نصب الشّباك على صفحات التّواصل الاجتماعيّ، للإيقاع باللاّهين من الشّباب، باسم التعارف لأجل الزّواج، والحقيقة أنّ همّ الواحدة منهنّ لا يتعدّى قتل الوقت وملء الفراغ، حتى إذا وقعت الفأس في الرّأس، استيقظت بعد فوات الأوان، وربّما يغريها الشّيطان بأنّه لا حلّ لها إلا أن تكمل مسيرتها في هذا العالم الموبوء.
عندما تكون العلاقات قبل الزّواج سببا في إنهاء مشروع العمر
إنّه لا حجّة لأيّ فتاة في فساد الواقع، ولا حجّة في كون أكثر شباب هذا الزّمان يشترطون التّعارف قبل الزّواج، ويشترطون الخرجات والجولات واللقاءات والاتّصالات قبل وضع أوّل خطوة على طريق بناء الأسرة، كما أنّه لا حجّة –في المقابل- لأيّ شابّ في كون أكثر الفتيات يشترطن أن يتمّ التعارف والالتقاء قبل الزّواج، وإذا كانت المرأة ضعيفة تذعن للواقع وتصغي لوساوس الشّيطان ولتحريض الزّميلات والخليلات، فإنّ الشابّ المسلم ينبغي له أن يتقي ربّه ويحفظ مروءته ويكون أبيا لا يرضى لزوجة المستقبل أن تقف مواقف الريبة.
إنه يكون كافيا لو حكّمنا عقولنا واعتبرنا بالواقع أن ندرك أنّ العلاقات قبل الزّواج، التي يقال إنّها ضرورية للتّعارف بين الطّرفين ليحصل التّوافق، هي كذبة من أكبر الكذبات التي اختلقها الشّيطان وصدّقها من ألغوا عقولهم وأعمتهم أهواؤهم وشهواتهم.. ألسنا نرى أنّ هذه العلاقات التي يقال إنّها ضرورية، كثيرا ما تأتي بنتائج غير ما كان يُرجى منها؟ تطول فترة التعارف لأشهر وربّما سنوات، ولا يكاد يحين أوان الزّواج حتى يملّ كلّ طرف من الآخر، ويحسّ بأنّه يتكلّف له ويخفي عنه جوانب أخرى سيّئة من شخصيته، فيصاب بالملل والسّآمة، وكثيرا ما يحصل الشّقاق والفراق قبل اللّقاء، وبعد أن تشوّه سمعة الفتاة ويُلاك عرضها على الألسن، حتى وإن توّج الأمر بالزّواج، فإنّ العشرة بين الطّرفين لا تلبث سوى أشهر معدودة، حتى تتحول إلى خصام وشقاق، بعد أن تُمحى الأصبغة وتتساقط الأقنعة. ولعلّنا لو أمعنّا النّظر في حالات الطّلاق التي تتزايد بوتيرة خطيرة في السّنوات الأخيرة، لوجدنا أنّ من أهمّ أسبابها العلاقات قبل الزّواج، التي ما يلبث الطّرفان كثيرا بعد الدّخول حتى يكتشفا أنّهما كانا يعيشان حفلة تنكّرية خادعة.
الألفة والمودّة بعد الزّواج وليس قبله
يُفترض فيمن أراد الزّواج والحلال، أن يأتي البيت من بابه، ويتواصل مع والد الفتاة وإخوتها، ولا يلتفت أبدا إلى الوساوس والمسوّغات، وله مندوحة في الاستعانة بأخواته ومحارمه من النّساء ليصل إلى رأي الفتاة، وينظر رأيها فيما يحتاج إلى معرفته، من دون أن تكون هناك أيّ حاجة إلى إخراجها من بيت والديها والخلوة بها، أو التواصل معها على الهاتف والفايسبوك.
لقد كانت الأسر المسلمة في عقود مضت، تنشأ على إثر نظرة عابرة محتشمة، تحرّك الرّجل ليأتي البيت من بابه، ويطلب المرأة من أبيها من دون أن يلتقيها أو يحادثها، فيكون الزّواج، ويلقي الله بينهما الألفة والرّحمة، وتدوم بينهما العشرة والمودّة.. مصداقا لقول الله تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون)).. هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها من يبرّرون العلاقات قبل الزّواج ويزعمون أنّها تؤدّي إلى التّعارف بين الطرفين. حقيقة أنّ الألفة التي تدوم بها العشرة، هي التي تكون بعد الزّواج، التي يجد فيها كلّ طرف شخصا جديدا في حياته، يسعى للتقرّب منه أكثر يوما بعد يوم، ومهما وجد عنده من نقائص فإنّها لن تكون صادمة بالنّسبة إليه.
آن الأوان لنوقف هذا الانحدار
لقد أدّى التّساهل في أمر هذه العلاقات المحرّمة إلى عدول كثير من الشّباب عن التّفكير في الزّواج، والاستغناء عنه بالفاحشة الآثمة التي أصبحت الطّريق إليها معبّدة باسم التّعارف، وأصبح العفاف يتّجه ليكون موضة قديمة لا تلقى أيّ اهتمام بين كثير من بنات المسلمين، بل وبلغ الأمر ببعض الشّباب الرّاغبين في الزواج إلى حدّ يقبل فيه الواحد منهم أن تحدّثه زوجته عن مغامراتها وتجاربها السّابقة، بل إنّ بعض الفتيات يشترطن على من يتقدّمون لخطبتهنّ أن يصارح كلّ طرف الطّرف الآخر بتجاربه!
إنّ على الآباء وأولياء الأمور أن يتّقوا الله في بناتهم ويوقفوا هذا الانحدار الخطير نحو الهاوية، وعلى بنات المسلمين أن يتّقين الله في دينهنّ ويلزمن العفاف والإباء، ويرفضن هذه الطّرق الملتوية، ويكون شعار الواحدة منهنّ: “من أراد الحلال فليأتِ البيت من بابه”. وعلى شباب المسلمين من جهتهم أن يتّقوا الله في بنات المسلمين، ويكونوا رجالا بحقّ، لا يرتضي الواحد منهم لأيّ مسلمة أخرى ما لا يرتضيه لأخته ولابنته في المستقبل.. ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) (النّور، 19- 21).