«البقرة» سنام القرآن

ت + ت - الحجم الطبيعي

الحديث عن البقرة في القرآن الكريم حديث طويل، جاء هذا الحديث في سورٍ وآياتٍ عديدة، وفي سياقات ودلالات مختلفة، وتكفي الإشارة إلى أن أطول سورة في القرآن الكريم تُسَمَّى سورة البقرة، وهذا الاسم كفيل بإثارة العَجب، لأن هذه السورة حافلة بالأحداث والتشريعات الخطيرة، ففيها تحويل القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام، وفيها تحريم الخمر، وفيها تشريع القِصاص، وفيها جمهرة من الأحكام، فيها أحكام الرضاع، وأحكام الطلاق، وأحكام العدة، وأحكام الربا، وأحكام الدَّين والرهن، وفيها أحكام الصلاة والزكاة.

وأحكام الصيام والاعتكاف، وأحكام الحج والعمرة، وفيها أطراف من نبأ المرسلين، وقصص الأولين، وفيها آية الكرسي أعظم آية في كتاب الله، وفيها كما في الحديث الشريف الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه، ومن بين هذا كله اختير لفظ البقرة ليكون اسماً وعنواناً لهذه السورة المنيرة، سورة البقرة، التي هي سنام القرآن.

وأول ما يطالعنا من القرآن الكريم في شأن البقرة، هذه القصة العجيبة، قصة بقرة بني إسرائيل التي سُمِّيَتْ بها السورة الثانية من كتاب الله.

تفسير

روى آدم بن أبي إياس في تفسيره عن أبى جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية، في قول الله تعالى: »إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً« قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيًا، ولم يكن له ولد، وكان له قريب وكان وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، وأتى موسى عليه السلام فقال له: إن قريبي قُتل وإني إلى أمر عظيم، وإني لا أجد أحدًا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله، قال:

فنادى موسى في الناس، فقال: أنشد الله من كان عنده من هذا عِلم إلا بيَّنه لنا، قال: فلم يكن عندهم عِلم، فأقبل القاتل على موسى عليه السلام، فقال له: أنت نبي الله فاسأل لنا ربك أن يبين لنا، فسأل ربه فأوحى الله إليه: »إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً« فعجبوا من ذلك، فقالوا: »أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ « يعني: لا هرمة »وَلا بِكْرٌ« يعني: ولا صغيرة »عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ « أي: نَصَفٌ بين البكر والهرمة » قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا« أي: صافٍ لونها »تَسُرُّ النَّاظِرِينَ« أي: تُعجب الناظرين »قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ « أي:

لم يذللها العمل » تُثِيرُ الأرْضَ « يعني: وليست بذلول تثير الأرض » وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ « يقول: ولا تعمل في الحرث »مُسَلَّمَةٌ« يعني: مسلمة من العيوب » لا شِيَةَ فِيهَا« يقول: لا بياض فيها » قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ« قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، لكانت إياها، ولكنهم شدَّدوا على أنفسهم فشدِّد عليهم، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا: »وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ« لما هُدوا إليها أبدًا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نُعِتت لهم إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القَيِّمة عليهم، فلمَّا علمتْ أنه لا يَزكو لهم غيرُها، أضعفت عليهم الثمن، فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى:

 إن الله قد كان خَفَّف عليكم فشددتم على أنفسكم فأَعْطوها رِضاها وحُكمها. فَفَعَلوا واشتروها فذبحوها، فأمرهم موسى عليه السلام أن يأخذوا عَظْمًا منها فيضربوا به القتيل، ففعلوا، فرجع إليه رُوحُه، فسَمَّى لهم قاتلَه، ثم عاد ميتًا كما كان، فأخذ قاتله وهو الذي كان أتى موسى فشكا إليه مقتله، فقتله الله على أسوأ عمله.

العجل

وقد ذُكرت البقرة في القرآن الكريم في أكثر من سورة في سياق الحديث عن بني إسرائيل الذين كان البقر أثيراً عندهم حتى عبدوا العجل الذي اتخذه لهم السامريّ في غيبة موسى عليه السلام عنهم في أيام المناجاة لله في الطُّور، بل هو أثير عندهم من قبل أن يجتاز موسى بهم البحر، وذلك منذ كانوا في مصر، وكان المصريون على قديم عهدهم يعبدون عجل »أبيس« فتشبَّع اليهود بحب العجل، وظل داءً فيهم »وأُشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم« .

وقد كان موسى عليه السلام حكيماً وحاسماً وغيوراً على التوحيد وعلى حرمات الله، فحرَّق العجل ونسفه في اليمِّ نسفاً، كما في الآية السابعة والتسعين من سورة طه، إذ قال جل شأنه على لسان موسى يخاطب السامريّ: »وانظر إلى إلهك الذي ظلتَ عليه عاكفاً لَنُحَرِقنَّهُ ثم لننسفنَّه في اليمِّ نسفاً« .

بشرى

وقد ذُكِرَتْ البقرة في القرآن الكريم في أكثر من سورة في سياق الحديث عن قصة خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام مع ضيفه المكرمين الذين نزلوا به فجاءهم ودون إبطاء بعجل مشوي، كما في الآية التاسعة والستين من سورة هود »وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا * قَالَ سَلَامٌ *فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ«.

وورد ذِكر البقرة في القرآن الكريم، في سورة يوسف، في سياق الحديث عن قصة يوسف عليه السلام مع ملك مصر الذي رأى في المنام سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأى سبع سنبلات خضر وسبعاً أخرى يابسات، فالتَوَتِ اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فجمع الملأ وسألهم عن الرؤيا، فقالوا هذه الرؤيا مختلطة فلا نقدر على تأويلها وتعبيرها.

وقد أوَّلها يوسف عليه السلام، أوَّل السبعَ السمان بسبع سنين خصبة، وأوَّل السبعَ العجاف بسبع سنين مجدبة صعبة تشتدُّ على الناس، ولذلك أمرهم يوسف أن يستعدوا لسنوات الجدب والقحط والقلة بأن يزرعوا سبع سنين زراعة متوالية، وأن يدخروا حصاد هذه السنين السبع المخصبة إلا قليلا مما يأكلون لسنوات القحط والقلة، وأنه سيحصل بعد السبعة المخصبة والسبعة المجدبة سنة مباركة كثيرة الخير والنعم.

Email